الإذاعات بين الأمس واليوم.. (الخطبة من الإذاعة والصلاة في المسجد)

كتب: مسعود عمشوش

 

تعد الصحف الورقية أقدم وسائل الإعلام الحديثة؛ فظهور أولى الصحف المطبوعة يعود إلى مطلع القرن السابع عشر. وبالنسبة للإعلام المسموع والمرئي تعد الإذاعة سابقة على التلفزيون. ففي 27 يوليو 1896، قام الإيطالي غوليلمو ماركوني، الذي يلقب بأبي الإذاعة، بأول اتصال لاسلكي باستخدام شفرة مورس، ونجح في إرسال موجات كهرومغناطيسية عبر المحيط الأطلسي لأول مرة سنة 1901. وفي سنة 1906 استطاع الأمريكي رينالد فندن أن يوظف تقنية موجات الراديو الكهرومغناطيسية لنقل الصوت البشري. وبفضله تمّ تطوير تقنيات بث الصوت وصناعة جهاز (المذياع) لاستقبال ذلك الصوت البشري الكهرومغناطيسي. لكن لم يصبح المذياع والإذاعة وسيلة إعلامية جماهيرية إلا في أوائل عشرينيات القرن الماضي حينما تأسست إذاعة KDKA عام 1920 وأصبحت أول إذاعة في العالم وتحديدًا في الولايات المتحدة الأمريكي، وأول محطة تجارية تحمل ترخيصًا إذاعيًا، وقد افتتحت برامجها بنشر وبث نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية، ولاقت نجاحا منقطع النظير حينذاك، وتلتها سنة ١٩٢٢ إذاعة الـ BBC سنة ١٩٢٢.  بعد ذلك سنة 1927 وضع الكونجرس الأمريكي قانونا لتنظيم الإذاعات التي بدأت تنتشر بسرعة؛ وتتزاحم موجاتها في الفضاء.

ومنذ ثلاثينيات القرن الماضي ذكر عدد من الرحالة الغربيين امتلاك كثير من العائلات الحضرمية أجهزة الراديو أحضرها لهم أقاربهم المغتربون في جنوب شرق آسيا. وخلال الحرب العالمية الثانية وظفت الإذاعات بشكل كبير للبروباجندا. ففي عدن بادر مكتب النشر البريطاني إلى إنشاء إذاعة تحريضية بسيطة شارك في تقديم برامجها كل من فريا ستارك وعلي محمد علي لقمان. وفي مطلع خمسينيات القرن الماضي افتتحت إذاعة عدن التي لعبت دورا كبيرا في نشر الأخبار الثقافة في الجنوب بشكل عام. فعندما كنت صغيرًا، في مطلع ستينيات القرن الماضي اشترى أخي ربيع جهاز راديو فيليبس من دكان بن طالب، وكنا نستمع كثيرا ما نستمع لإذاعة عدن وإذاعة صوت العرب التي شاركت في إذكاء روح المقاومة ضد المستعمر البريطاني في الجنوبي. وكنا نستمع كذلك إلى إذاعة (ندوة المستمعين) من هنا لندن. وفي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي أسست إذاعات محلية في مختلف مدن الجنوب. ولم يستطع التلفزيون الملون الذي بدأ ينتشر حينذاك أن يقلص عدد متابعي الإذاعات لاسيما أن برامجها كانت ثريَّة ومتنوّعة جدا. وأتذكر أننا خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات ظلينا نترقب الساعة الثالثة ظهرا لنتابع حلقات المسلسل الإذاعي المحلي من إذاعة عدن.

لكن منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي ومطلع هذه الألفية، وبعد الانتشار الواسع لقنوات التلفزيون الفضائية وشبكة الانترنت، تراجع كثيرا حضور الإذاعات لاسيما كوسيلة لنقل الأخبار، وأصبح الناس يُنظرون إلى الراديو على أنه شكلٌ من أشكال وسائل الإعلام المتخلفة والآيلة للزوال، وتخلصت معظم العائلات من أجهزتها، واختفت في الأسواق بطاريات أبوبس وأخواتها. وكادت صناعة الراديو أن تنتهي كشكل من أشكال الترفيه لاسيما في المدن الكبيرة.

لكن منذ نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عادت النشاط الإذاعي للواجهة، وبدأ ينتعش من جديد بفضل التكنولوجيا الجديدة: أجهزة المذياع الرقمية والإف إم التي يمكن استقبالها بسهولة من الهواتف المحمولة، وكذلك تقنية الإم بي ثري التي تبنتها منصات البودكاست، التي كانت في الأصل وسيلة إذاعية مسموعة فقط، قبل أن تتطور إلى تقنية الإم بي فور السمعية المرئية.

وإذا كانت صناعة أجهزة المذياع على وشك الانهيار سنة 2008، فهي قد استعادت اليوم عافيتها، لاسيما تلك الصناعة المتخصصة في إنتاج أجهزة المذياع للسيارات وكذلك الأجهزة الرقمية. وفي الولايات المتحدة الأمريكية يفضلون تقنية البث الصوتي الرقمي (DAB) كمنصة راديو مستقبلية تتم عبر الأقمار الصناعية، والتي تبنتها كذلك شركات تصنيع السيارات وزودت موديلاتها الجديدة بنوع معين من راديو DAB.

وبالنسبة لنا في الجنوب، علينا أولا التأكيد أن الإذاعات المحلية التي تأسست قبل 1990 احتفظن في الغالب بجمهورها الذين يحرصون على الاستماع لها لمتابعة الأخبار المحلية وطائفة الإعلانات والمسلسلات المحلية التي تنتعش كثيرا خلال شهر رمضان. وقد سهلت تقنية الإف إم وصول تلك الإذاعات لمعظم القرى والمدن. واليوم يستمع كثير من الناس في عدن لإذاعات أثير عدن أو عدن إف إم أو إذاعة عدن الغد وإذاعة بندر عدن وإذاعة لنا.

وفي عتق هناك إذاعة شبوة الرسمية التي تتبع للسلطة المحلية، وإذاعة رباط شبوة التابعة للصوفية، وهناك إذاعات موالية لهذا الحزب السياسي أو ذاك، منها إذاعة وئام وإذاعة البلاد… إلخ.

أما في وادي حضرموت فقد أصبحت إذاعة سيؤن، التي تأسست في مطلع سبعينيات القرن الماضي، واحدة من بين عشرات الإذاعات المنتشرة في فضاء الوادي دون رقيب رقيب ولا حسيب. فإضافة إلى إذاعة الماهر أصبح لكثير من المساجد والمدارس والأربطة إذاعات خاصة بها. وقبل سنوات خلال انتشار وباء كورونا، تبيّن لي أن جاري كان يكتفي بالاستماع لخطبتي الجمعة في سيارته من إذاعة المسجد ولا يدخل المسجد أو بَهْوِهِ إلا للصلاة. ولا أدري إذا كان تطور طريقة أدائه لفريضة الجمعة قد توقف عند هذا الحد!

في الختام، من الواضح أن الراديو قد عاد بقوة ليمارس دورا إعلاميا وتوجيهيا ووعظيا ودينيا وسياسيا كبيرا ولا يبدو أن وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ستزيحه مجددا في المستقبل المنظور. لهذا سارعوا إلى صيانة أجهزة الراديو القديمة التي في مستودعاتكم أو في سياراتكم، ولا يزال خميس مطينقا وسالم عمشوش يمارسان هذه المهنة، في سيؤن. ولا تزال إذاعة سيؤن تبث مسلسل (بو ترعش).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى