مليونية سيئون: دلالات الزخم الشعبي ورسائله الحاسمة للإقليم والعالم


في مشهد تاريخي يفيض بالدلالات السياسية والشعبية، لم تكن الحشود المليونية التي غمرت مدينة سيئون يوم الأحد، 28 ديسمبر، مجرد رد فعل على حدث عابر، بل كانت بمثابة إعلان صريح عن نهاية مرحلة “الصبر الاستراتيجي” وبداية مرحلة “الحسم الشعبي”.

قالت حضرموت، قلب الجنوب النابض ودرعه الشرقي، كلمتها الفصل بصوت واحد لا يقبل التأويل: “حضرموت جنوبية الهوية والمصير” ولم يكن هذا الزلزال الشعبي وليد اللحظة، بل هو التتويج الطبيعي لمسيرة نضالية طويلة، وتراكم من الغضب الشعبي ضد محاولات الإقصاء والتهميش والاحتلال المقنّع ،وجاءت مليونية سيئون لتعلن أن شعب الجنوب، الذي منح تفويضه المطلق للمجلس الانتقالي الجنوبي بقيادة الرئيس القائد عيدروس قاسم الزُبيدي، قد قرر أن يأخذ زمام المبادرة لفرض إرادته على أرضه.

يأتي هذا الزخم الشعبي غير المسبوق في لحظة فارقة، تتزامن مع التحركات الشجاعة للقوات المسلحة الجنوبية التي نجحت في تطهير وادي حضرموت، آخر معاقل قوى الاحتلال اليمني المتمثلة في المنطقة العسكرية الأولى، هذه المنطقة التي تحولت على مدى سنوات إلى بؤرة لنهب الثروات، ورعاية الإرهاب، وخدمة أجندات معادية للجنوب وقضيته.

إن صرخة سيئون اليوم هي إعلان بأن قطار استعادة الدولة الجنوبية الفيدرالية المستقلة، الذي انطلق بدماء الشهداء وتضحيات المناضلين، قد بلغ محطته الأخيرة، قاطعًا الطريق بشكل نهائي أمام كل المشاريع المشبوهة التي حاولت عبثًا سلخ حضرموت عن عمقها الاستراتيجي وامتدادها الوطني الجنوبي.
إنها اللحظة التي يتلاقى فيها القرار السياسي للقيادة مع الإرادة الجارفة للشعب، لرسم مستقبل لا مكان فيه للوصاية أو التبعية.

*مليونية سيئون: استفتاء شعبي متجدد*

لا يمكن قراءة مليونية سيئون بمعزل عن سياقها النضالي الممتد فهي ليست حدثًا معزولًا، بل هي الحلقة الأحدث والأكثر سطوعًا في سلسلة من الاستفتاءات الشعبية التي نظمها شعب الجنوب على امتداد جغرافيته.
فمن مليونيات عدن التي أسست للمجلس الانتقالي، إلى مليونيات المكلا وشبوة التي رسخت مطالبه، تأتي مليونية سيئون اليوم لتؤكد أن وهج التفويض الشعبي للرئيس القائد عيدروس الزُبيدي لم يخفت يومًا، بل يزداد توهجًا مع كل تحدٍ جديد.
هذا التفويض ليس مجرد ورقة تُمنح، بل هو عقد اجتماعي حي ومتجدد بين الشعب وقيادته، عقد كُتب بدماء الشهداء وعرق المناضلين، ويُجدد اليوم بهتافات الملايين التي تطالب باستعادة دولتها.

إن الشرعية التي يستمدها المجلس الانتقالي من هذه الحشود المليونية هي شرعية أصيلة، نابعة من الأرض ومن نبض الشارع، وهي تتفوق على أي شرعية مزعومة تُمنح في الفنادق والغرف المغلقة.

فعندما يحتشد مئات الآلاف في سيئون، من أطفال وشيوخ ونساء ورجال، متحدين كل الظروف، فإنهم يرسلون رسالة واضحة للعالم: قيادتنا هي من نختارها، وقرارنا هو ما نفرضه بإرادتنا. وقد لخص الأستاذ علي الكثيري، رئيس الجمعية الوطنية للمجلس الانتقالي، هذا المشهد من قلب الحدث بقوله: “الجنوب يقترب من لحظة حاسمة تتمثل في إعلان الدولة”، مؤكدًا أن هذه الجماهير هي الصخرة التي تتحطم عليها كل المؤامرات، وهي الضمانة الحقيقية لتحقيق الهدف الأسمى.
إنها الديمقراطية في أسمى صورها، ديمقراطية مباشرة يمارسها الشعب في الساحات والميادين، مؤكدًا أن زمن فرض القادة والقرارات من الخارج قد ولى إلى غير رجعة.

*حضرموت قلب الجنوب النابض.. لا وصاية على قرارها*

لقد عملت آلة “البروباجاندا” التابعة لقوى الاحتلال اليمني على مدى عقود على ترويج سردية كاذبة، تحاول تصوير حضرموت ككيان منفصل عن الجنوب، وتصوير أبناء الجنوب الآخرين كغرباء عنها.
وجاءت مليونية سيئون لتنسف هذه السردية من جذورها، وتكشف زيفها فالعلاقة بين حضرموت وبقية محافظات الجنوب ليست علاقة سياسية طارئة، بل هي علاقة ضاربة في عمق التاريخ والجغرافيا والثقافة والدم.
إن الانتماء الجنوبي والهوية الواحدة والروابط الاجتماعية والتاريخ المشترك في مواجهة الغزاة والمستعمرين هي حقائق لا يمكن لأي دعاية مضللة أن تمحوها.

لقد أسقطت هذه المليونية ورقة التوت عن كل الأصوات النشاز التي حاولت تصوير تحركات القوات المسلحة الجنوبية في وادي حضرموت على أنها “احتلال”. فكيف يكون الجنوبي محتلًا على أرضه؟ الحقيقة التي صدحت بها حناجر المشاركين هي أن هذه القوات، التي تضم في صفوفها الآلاف من أبناء حضرموت أنفسهم، هي قوات جنوبية على أرض جنوبية، تحركت استجابة لنداءات متكررة من أبناء وادي حضرموت الذين عانوا الأمرين من تسلط المنطقة العسكرية الأولى. هذه المنطقة التي تحولت إلى دولة داخل الدولة، تنهب ثروات النفط، وتتحكم في مفاصل الحياة، وتوفر في الوقت ذاته غطاءً سياسيًا وأمنيًا لانتشار الجماعات الإرهابية التي نفذت عشرات الاغتيالات والتفجيرات ضد الكوادر الحضرمية والجنوبية.

إن حق حضرموت في إدارة ثرواتها وقرارها السياسي هو حق أصيل ومكفول ضمن إطار الدولة الجنوبية الفيدرالية القادمة، التي يضمن تصميمها توزيعًا عادلًا للسلطة والثروة. والمليونية اليوم هي أبلغ رد على أن حضرموت ترفض أي وصاية، سواء كانت من صنعاء أو من أي جهة أخرى، وتختار بملء إرادتها الانحياز الكامل لمشروعها الوطني الجنوبي، مدركة أن قوتها ومستقبلها يكمنان في وحدتها مع إخوانهم في كل محافظات الجنوب.

*وحدة الصف الجنوبي: سيمفونية التلاحم من المهرة إلى باب المندب*

لم تكن سيئون اليوم مدينة حضرمية فقط، بل كانت عاصمة مصغرة للجنوب، وقِبلة لكل الأحرار.
لقد تحولت طرقات حضرموت إلى أنهار بشرية متدفقة، حيث توافد أبناء حضرموت، في قوافل مهيبة، ليشاركوا في هذا العرس الوطني الكبير كأصحاب قضية واحدة ومصير واحد.
هذا المشهد المهيب يجسد أروع صور التلاحم الوطني، ويفند عمليًا كل محاولات زرع الشقاق والفرقة بين أبناء الجنوب.

هذه الوحدة ليست شعارًا سياسيًا يُرفع في المناسبات، بل هي حقيقة راسخة على الأرض، تجلت في صور لا حصر لها من التضحية والتكافل. تجلت في قوافل الدعم التي كانت تنطلق من حضرموت لدعم جبهات الضالع ويافع، وتجلت في استقبال أبناء الجنوب لإخوانهم النازحين من كل المناطق، وتجلت في أسمى صورها عندما امتزجت دماء الشهداء من كل محافظات الجنوب في خنادق القتال ضد المليشيات الحوثية والتنظيمات الإرهابية.
إن وحدة المصير هذه، المكتوبة بالدم والتضحيات، هي أقوى من أي خلافات ثانوية أو محاولات تفتيت.

وجه هذا التلاحم رسالة واضحة: قضية الجنوب لا تتجزأ. فأمن حضرموت هو من أمن عدن، واستقرار المهرة هو شرط لاستقرار باب المندب وأي محاولة للنيل من أي جزء من تراب الجنوب هي اعتداء على الجنوب بأكمله.
هذه العقيدة الراسخة في وعي كل جنوبي هي التي تمنح المشروع الوطني الجنوبي صلابته وقدرته على مواجهة كل التحديات، وتؤكد أن الجسد الجنوبي الواحد يرفض أي محاولة لبتر أي عضو من أعضائه.

*القوات المسلحة الجنوبية: درع الوطن في معركتة الوجودية*

تأتي مليونية سيئون لتقدم غطاءً شعبيًا وسياسيًا مطلقًا للقوات المسلحة الجنوبية، وهي تخوض معركة الشرف والوجود لتأمين كل شبر من تراب الجنوب.
هذه القوات، التي تم بناؤها من رحم المعاناة والتضحيات، أثبتت للعالم أجمع أنها القوة الأكثر تنظيمًا وفعالية على الأرض، وأنها الرقم الصعب في معادلة الأمن الإقليمي.
إن دور هذه القوات في مكافحة الإرهاب، وتثبيت الأمن والاستقرار، وتأمين المصالح الدولية، وقطع خطوط الإمداد الحيوية عن المليشيات الحوثية، هو دور وطني بامتياز يخدم أمن الجنوب والمنطقة والعالم بأسره.

إن محاولة بعض الأطراف، التي تزعم انتماءها للشرعية، تصوير هذه التحركات الوطنية على أنها “تمرد”، هي محاولة يائسة ومفضوحة لخلط الأوراق وحماية منظومة الفساد والإرهاب التي عاثت في وادي حضرموت فسادًا ونهبًا.
فكيف يكون تطبيق اتفاق الرياض ونشر قوات النخبة الحضرمية تمردًا، بينما بقاء قوات شمالية تحتل أرضًا جنوبية وترفض تنفيذ الاتفاق هو التزام بالشرعية؟ إنه منطق مقلوب لا يمكن أن ينطلي على أحد.
لقد أثبتت القوات المسلحة الجنوبية نجاحها الباهر في عمليات “سهام الشرق” و”سهام الجنوب” في تطهير محافظتي شبوة وأبين من التنظيمات الإرهابية في وقت قياسي، وهي اليوم تستكمل هذه المهمة المقدسة في وادي حضرموت، بدعم وإسناد شعبي منقطع النظير.

*تحالف ثلاثي الشر بين الحوثي والإخوان والإرهاب*

لقد كشفت الأحداث الأخيرة في حضرموت بوضوح تام عن حقيقة “تحالف الشر” غير المقدس القائم على المصالح المشتركة بين مليشيات الحوثي وتنظيم الإخوان والجماعات الإرهابية.
فبينما تتقدم القوات المسلحة الجنوبية لتأمين وادي حضرموت وتجفيف منابع الإرهاب، ترتفع أصوات هذا التحالف المشبوه، من صنعاء إلى مأرب، للدفاع عن بؤر الإرهاب والفوضى المتمثلة في المنطقة العسكرية الأولى.

هذا التناغم ليس مصادفة فالمنطقة العسكرية الأولى، بولائها العقائدي والسياسي لتنظيم الإخوان، وفرت على مدى سنوات الملاذ الآمن والغطاء للجماعات الإرهابية. وفي الوقت نفسه، فإن بقاءها في وادي حضرموت يخدم أجندة الحوثي بشكل مباشر من خلال عدة طرق: أولًا، استنزاف التحالف العربي في جبهة هامشية بعيدًا عن خطوط التماس الحقيقية.
ثانيًا، ترك الحدود الشمالية لحضرموت مع مناطق سيطرة الحوثي مفتوحة أمام عمليات التهريب الواسعة للأسلحة والممنوعات.
ثالثًا، إبقاء الجنوب في حالة من عدم الاستقرار الدائم لمنعه من التفرغ لمواجهة المشروع الإيراني.
إن شعب الجنوب يدرك تمامًا أن معركته اليوم هي معركة وجود ضد هذه المشاريع الظلامية التي تسعى لإبقائه رهينة للفوضى والتبعية والابتزاز، وأن تحرير وادي حضرموت هو خطوة حاسمة لتفكيك هذا التحالف الخبيث.

*رسالة حاسمة للإقليم والعالم: إرادة الشعب خط أحمر*

إن مليونية سيئون ليست مجرد رسالة للداخل، بل هي رسالة سياسية ودبلوماسية بالغة الوضوح، موجهة بعناية فائقة إلى الأشقاء في الإقليم والشركاء في المجتمع الدولي. مفاد هذه الرسالة متعدد الأبعاد:

أولًا، التأكيد القاطع على أن حضرموت جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني الجنوبي، وأن شعب الجنوب قد حسم خياره بالتمسك بأرضه وهويته ووحدته وبالتالي، فإن أي محاولات للضغط، سواء كانت دبلوماسية أو عسكرية، من أجل إخراج القوات المسلحة الجنوبية من أراضيها في حضرموت، أو إعادة فرض وصاية قوات “الشرعية” الفاسدة التي يرفضها الشعب، ستكون مرفوضة شكلًا ومضمونًا.
إنها ليست مجرد موقف سياسي، بل هي إرادة شعبية صلبة ستواجه أي محاولة لكسرها.

ثانيًا،لقد أثبت المجلس الانتقالي الجنوبي، عبر سنوات من الشراكة الفاعلة، أنه الطرف الأكثر جدارة بالثقة والأكثر فعالية في مكافحة الإرهاب وتأمين الملاحة الدولية في أحد أهم الممرات المائية في العالم.

إن استقرار الجنوب تحت قيادة موحدة ومسؤولة وقوية، ممثلة بالمجلس الانتقالي، هو الضمانة الحقيقية والوحيدة لأمن ممرات الطاقة والمصالح الدولية، وليس دعم الكيانات الهشة والفاسدة التي أثبتت فشلها وتواطؤها.

ثالثًا، إن دعوة البعض لحل القضية الجنوبية ضمن “حوار يمني شامل” تتجاهل حقيقة أن الجنوب ليس طرفًا في الصراع اليمني-اليمني، بل هو ضحية لاحتلال عام 1994.
والمدخل الصحيح للسلام الدائم هو الاعتراف بهذه الحقيقة، والتعامل مع المجلس الانتقالي الجنوبي كقوة أمر واقع تمثل شعبًا وقضية، والدخول في عملية تفاوضية مباشرة تحت رعاية دولية، تفضي إلى حل الدولتين الذي يلبي تطلعات شعب الجنوب في استعادة دولته.
إن تجاهل هذه الحقائق لن يؤدي إلا إلى إطالة أمد الصراع وزيادة حالة عدم الاستقرار في المنطقة بأسرها.

*استمرار النضال حتى بزوغ فجر الدولة*

إن الزخم الهائل الذي شهدته سيئون اليوم ليس نهاية المطاف، بل هو بمثابة شحنة طاقة متجددة تضخ في شرايين النضال الجنوبي، السلمي منه والمسلح.

هذا الزخم الكبير تأكيد على أن شعب الجنوب، الذي قدم قوافل من الشهداء والجرحى، ماضٍ في طريقه بثقة وعزيمة لا تلين وإن الهتافات التي انطلقت اليوم ستتحول إلى أفعال على الأرض، وستترجم إلى مزيد من التلاحم الشعبي، ومزيد من الدعم للقوات المسلحة، ومزيد من الضغط السياسي والدبلوماسي.

إن الهدف الأسمى، المتمثل في استعادة دولة الجنوب الفيدرالية كاملة السيادة وعاصمتها عدن، لم يعد حلمًا بعيد المنال بل أصبح اليوم، بعد مليونية سيئون، أقرب من أي وقت مضى، ليس مجرد هدف سياسي، بل هو ضرورة حتمية لضمان العيش الكريم والأمن والتنمية والازدهار لشعب عانى طويلًا من ويلات الاحتلال والحروب.

هي ساعة الحسم التي أعلنها الشعب من سيئون، ولن يتراجع الجنوب حتى يرتفع علم دولته المستقلة خفاقًا فوق كل شبر من ترابه الطاهر، من المهرة شرقًا إلى باب المندب غربًا.

زر الذهاب إلى الأعلى