التجاذبات الدولية في الأزمة الأوكرانية

العاصفة نيوز: متابعات

 

تناولت محادثات الرئيس الفرنسي ماكرون ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فان ديرلين خلال زيارتهما لبكين في الأسبوع الأول من شهر نيسان/إبريل ٢٠٢٣ الشأن الأوكراني، وجاءت الزيارة في أعقاب نشر الصين لمشروع السلام في أوكرانيا، وفي ظل تناقل الصحف العالمية تداعيات التسريبات للوثائق العسكرية والاستخباراتية التي بدأ تداولها في شهر شباط/فبراير ٢٠٢٣ عبر منصة ديسكورد، حيث رسمت صورة مفصلة للحرب في أوكرانيا ومعلومات حول الصين وحلفاء الولايات المتحدة، والتي أشارت إلى وجود قوات خاصة غربية عاملة في أوكرانيا، وقيام بريطانيا بإرسال ذخيرة قذائف يورانيوم منضب لها، وأشارت إلى جاهزية الألوية الأوكرانية الجديدة والتي يتم تجهيزها لشن هجوم ربيعي مزعوم على القوات الروسية. ولقد نُقل عن مسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية قولهم إن الوثائق حقيقية، وهو ما استغلته روسيا لتـأكيد زعمها بأنها “لا تواجه أوكرانيا وحدها وإنما تواجه الناتو كذلك”.

وواقع هذه التسريبات وإن كان نفى بعض المسؤولين الأوكرانيين صحتها مشيرين إلى احتمال كونها “حملة تضليل روسية”، إلا إن الإحباط والغضب قد ظهرا على القادة الأوكرانيين، حيث غرد المستشار الرئاسي ميخائيلو بودولياك قائلًا: “نحتاج إلى قدر أقل من التأمل في التسريبات وقدر أكبر من الصواريخ بعيدة المدى من أجل إنهاء الحرب على نحو مناسب”، وكل ذلك يتماشى مع سياسة التحوُّط لأمن المعلومات التي تتبعها الولايات المتحدة، ومن ضمنها ما يُعرف بـ Honey Pot “وعاء العسل”، الذي يشمل تسريب معلومات لتغذية سياسة معينة أو لدفع توجه محدد أو فرض واقع بعينه، تمامًا كتسريبات (أوراق بنما) التي ثبت وقوف المخابرات الأميركية خلفها، ومثل تسريبات البنتاغون الأخيرة حول التعاون الإماراتي الروسي ضد الولايات المتحدة، وحول تصنيع مصر لصواريخ لحساب روسيا. وهذه التسريبات تندرج في خانة تحذير العملاء وإعاقة علاقة المنافسين معهم، وتندرج أيضًا في خانة الدخان الذي يخفي خلفه حقائق ووقائع جارية أو يفرض واقعًا معيّنًا.

والغرض من التسريبات المتعلقة بروسيا هو التأكيد على استمرار النهج العسكري في الأزمة الأوكرانية في ظل مساعي بعض الدول الأوروبية والصين لتجميد الأزمة، وبخاصة بعد أن ظهرت بوادر تشي بوجود أصوات في الولايات المتحدة تفضل وقف الحرب، ولا سيما وأن أميركا قد تمكنت من تغيير البيئة الأمنية للقارة الأوروبية، ووضع أسس تبدل خارطة الطاقة في أوروبا.

وكان من المحتمل أن تتجه الأمور إلى تجميد الأزمة لولا تداخلها مع السياسات المتعلقة بالصين، وعلاقتها بروسيا على المستوى الجيوستراتيجي، وعلاقتها مع أوروبا على المستوى الجيواقتصادي، والذي حاول المستشار الألماني والرئيس الفرنسي التحوط لتداعياته في زياراتهما للصين، وذلك لإدراكهما بأن الولايات المتحدة إنما تدفع نحو ربط المسألة الأوكرانية والأمن الأوروبي بمنطقة الإندوباسيفيك، وهو ما يُفهم من تصريح المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي للصحافيين، حيث قال: إنّ “الفرنسيّين هم فعلًا بصدد الانخراط بشكل أكبر في منطقة المحيطين الهندي والهادئ”.

وبالعودة إلى الوثائق المسربة بشأن أوكرانيا فإنها تشي برغبة أميركا في إطالة أمد الصراع، وإغراق روسيا في مستنقع حرب مُدن يُقاس النجاح فيها بالأمتار، ويكبد كلا الطرفين خسائر بشرية وعسكرية، ويبقي روسيا منشغلة عن تحالفها السياسي مع الصين. كما ويُربك العلاقة الصينية الأوروبية، ويُعمق الانقسام في موقف الدول الأوروبية حيال الأزمة الأوكرانية والعلاقة مع الصين. وهو ما حاول ماكرون تداركه خلال زيارته الثنائية الأخيرة مع رئيسة المفوضية الأوروبية تحت شعار “الوحدة الأوروبية شرط أساسي لبناء شراكة متوازنة مع الصين”.

وفي هذا السياق صرح قصر الإليزيه بأن الصين طرف “لا يمكن تجاوزه” أمام التحديات الكثيرة التي يشهدها العالم، وأن قربها من روسيا يجعلها البلد الوحيد القادر على أن يؤثر بشكل مباشر وجذري على النزاع باتجاه أو بآخر”. والمعنى أن ماكرون حاول الاستثمار في المبادرة الصينية لتجميد الأزمة الأوكرانية، وقام بحث الرئيس شي جين بينغ على “إقناع” روسيا بوقف الحرب في أوكرانيا. غير أن الصيغة التوافقية للبيان الختامي للزيارة والذي لم يحمل إدانة أو ميلًا لصالح أي طرف من أطراف الحرب الأوكرانية تُظهر فشل محاولته، إذ اقتصر البيان على “دعم كلّ الجهود الرامية لعودة السلام في أوكرانيا”، كما ظهر فشل ماكرون في تعقيب رئيسة المفوضية الأوروبية التي اعتبرتها مواقع التواصل الاجتماعي الصينية بالدمية الأميركية، حيث وصفت رئيسة المفوضية العلاقة بين الصين والاتحاد الأوروبي بالمعقدة.

وأما في الجانب الاقتصادي فلم يحقق ماكرون من الزيارة سوى بعض المكاسب المتواضعة، حيث أعلنت وزارة التجارة في الصين أن ٣٦ شركة صينية وفرنسية وقعت ١٨ اتفاقية. إلا أنّه باستقراء تصريحات الرئيس ماكرون ومواقفه السابقة، نحو انتقاده للصين بشكل غير مباشر، ودعوته لها تحديد موقفها من الحرب في أوكرانيا علنًا، ودعوته للرئيس شي جين بينغ في قمة مجموعة العشرين في تشرين الثاني/نوفمبر لـ”توحيد الجهود” ضد الحرب في أوكرانيا، مضيفًا أن استقرار العالم يصب أيضًا في مصلحة الصين، بالإضافة إلى تصريحه الأخير في (١١/٤) أثناء زيارة رسمية لهولندا قبل اتصاله بزيلنسكي، والذي أثار فيه انتقاد كثيرين “إنّ أوروبا لا ينبغي أن تكون تابعةً لواشنطن أو بكين فيما يتعلق بقضية تايوان”، وقوله: “… إن التحالف مع الولايات المتحدة لا يعني التبعية لها”، كل ذلك إنما هو محاولة منه لإيجاد توافق بين رؤيته الداعية للاستقلال الاستراتيجي الأوروبي، وبين مواقف الدول الأوروبية المطالبة بضرورة الالتزام بالنظام الدولي ومقرراته.

وفي هذا السياق قال: “نحن جميعًا مسؤولون عن هذا النظام ويجب أن نطبّقه”. والظاهر أيضًا أن ماكرون يسعى إلى تتويج فترة رئاسته الثانية بانتزاع قيادة أوروبا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ويسعى إلى إيجاد مناخ ملائم لاستمالة الدول الأوروبية إلى رؤيته، حيث قال: “من دون الحوار، لن يكون السلام في أوروبا ممكنًا”. لا سيما وأنه يعتقد بأن ذلك بات ممكنًا بعد إطلاق مشروع السلام الصيني، ومخرجات القمة الروسية الصينية، مستغلًا رغبة ألمانيا بعلاقة تجارية مع الصين. وهو الأمر الذي برز في الضغط الذي مارسه بمعية المستشار الألماني على الرئيس الأوكراني حينما أخبراه بأن عليه أن ينخرط في محادثات سلام مع موسكو. لكن أميركا عرقلت ذلك عن طريق الرئيس الأوكراني الذي صرَّح بأنّ “الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يهدر وقته بالتفكير في أي نوع من الحوار مع روسيا”. ونتيجة للضغط الأميركي انحنى ماكرون في تصريح لاحق بشأن الحوار مع روسيا، وقال “إن الوقت ليس مناسبًا الآن”. لكنه وبعد زيارته للصين عاد إلى دفع دفة مشروع السلام من بوابة الرئيس الأوكراني، وهو ما ظهر من تأكيد الرئاسة الفرنسية وقولها إن “الرئيسين ناقشا الخطوات القادمة في تنظيم قمة سلام”.

ويتضح من ذلك كله أن الولايات المتحدة تخطط لإطالة أمد الحرب الأوكرانية، واقتلاع فكرة الاستقلال الاستراتيجي والدفاع الأوروبي المشترك تمامًا، وبخاصة بعد دخول الصين على خط الوساطة وطرحها لمشروع السلام ومحاولتها كسب ماكرون إلى جانبها، حيث ظهر ذلك من خلال الحفاوة التي حظي بها الرئيس الفرنسي أثناء الزيارة، بخلاف التهميش الذي جرى لرئيسة المفوضية الأوروبية.

والغرض من إطالة أمد الحرب أيضًا هو حرمان الصين وفرنسا من فرض رؤيتهما بشأن الأزمة الأوكرانية، وهو ما يعني عدم استبعاد الولايات المتحدة لمقاربة تجميد الأزمة عند اللزوم، وبخاصة بعد أن عمقت حالة عدم اليقين المتعلقة بالأمن الأوروبي في ظل تلويح بوتين بالسلاح النووي مضطرًا وفي ظل حاجة أوروبا للمظلة النووية الأميركية.

ثم إن تجميد الأزمة الأوكرانية بمعزل عن إرادة الصين وفرنسا لاحقًا يصب في مصلحة الولايات المتحدة بقدر مصلحتها في إطالة أمد الحرب في الظرف الراهن.

4/شوال/1444هـ

24/4/2023م

زر الذهاب إلى الأعلى