"تكوين الفكر العربي": كرنفال "تنويري" على حساب طه حسين
شهد “المتحف المصري الكبير” في القاهرة، يوم السبت الماضي، أشغال المؤتمر السنوي الأول لـ”مؤسّسة تكوين الفكر العربي”، تحت عنوان “خمسون عاماً على رحيل طه حسين: أين نحن من التجديد اليوم؟”. لكنّ المؤتمر الذي أُريد له أن يكون تكريماً لمُنجَز عميد الأدب العربي (1889 – 1973) سرعان ما كشف عن إسفاف وتخبُّط على مستوى التصريحات، حيث ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي على المستويين المصري والعربي، بِسَيل هائل من التعليقات حول ما دار بين عُضوَي مجلس أمناء “مؤسسة تكوين” المصري يوسف زيدان والسوري فراس السوّاح، حيث سأل الأول الثاني إن كان يرى نفسَه أهمّ من طه حسين؟ فما كان من السوّاح إلّا أن أجابه: “أنا وأنت أهمّ من طه حسين”.
“دُعابة” أم استهتار
استفزّ الجواب آلاف المتابعين من حول العالَم العربي، لِمَا يستبطنه من تعالٍ وادّعاء، فمن أيّ ناحية قارنّاهُما بصاحب “الأيّام” سيبدو هذا المشهد مدعياً. لم يقتصر الأمر على هذا، فبَعد أن اشتعلت عاصفة التعليقات، كتب زيدان عبر حسابه على “فيسبوك” منشوراً اعتورته أخطاء في الإملاء، مُوضِّحاً فيه أنّ الأمر مُجرّد دُعابة، ولم يكن يقصد أيّ مقارنة جدّية. حتى الإعلام المصري الذي حشَد طاقاته لهذا المؤتمر، وَلَّفَ لقاءً على عجَل بين الاثنين ليدفعا عنهما ما تورّطا به.
تنوير يعتّم على قضايا العدالة الاجتماعية والديمقراطية والتحرر
سوى هذا “الحدث” الذي حوّل الثقافة والفكر إلى مجرّد “ترند” سطحيّ، والمفروض أن تكون الغاية “التكوينية” منه أبعد وأعمق، لم تبرح طُروحات المؤتمر حدود المُتوقَّع لسِجَالات “التنوير” العربي، ونضع “التنوير” هُنا بين قوسين، إذ لا يُمكن أن يُعتمد هذا الاسم لمجموعة من مُقدِّمي البرامج (نجوم الإعلام المكرّسون منذ انقلاب صيف 2013)، من شاكلة إبراهيم عيسى وإسلام البحيري إلى عمرو عبد الحميد، فقط لأنهم يرون أنفسهم كذلك.
الانتقادات أيضاً طاولت تمويل المؤسسة الوليدة، بحسب ما تداولته منشورات عديدة استشهد معظمها بتصريحات مواربة للكاتبة فاطمة ناعوت تتهرّب من الإفصاح عن هوية الداعمين، كما لم يعلن عنه بشكل واضح على الموقع الإلكتروني للمؤسسة، حيث تتماثل الرؤية والأهداف مع مؤسسات ظهرت خلال العقد الماضي مدعومة من دولة الإمارات، وتركّز عملها على “تجديد الخطاب الديني بما يلائم مستجدّات العصر”، لكن بعضها تعطّل عملها أو تراجع نشاطها بعد أن أثارت الجدل والسجال حول تصريحات أو مواقف المنتمين إليها.
فنّ التعتيم على القضايا
ويُلاحظ أيضاً أن هذه المؤسسات التي أنشئت في عدد من المدن العربية لم تتمكّن من نشْر خطابها وتجسير الفجوة بينها وبين الجمهور، بسبب إصرار كتّابها على أسلوب صادم ومستفزّ لهم. لكن الأهمّ من ذلك كلّه، يتعلّق بالإضاءة على قضايا محدّدة في مقدّمتها: معاداة حركات الإسلام السياسي، وتثبيت قراءات مُسيّسة للتراث الإسلامي تُحدث غالباً انقساماً حادّاً عند المتلقين لها، وكذلك التعتيم على قضايا أخرى أكثر راهنية وأكثر إلحاحاً وترتبط بالعدالة الاجتماعية والديمقراطية والتحرر.
تصريحات مواربة تتهرّب من الإفصاح عن هوية الداعمين
لا ينفي أحمد سعيد زايد، أحد كتّاب “تكوين”، في تصريحات تلفزيونية، أن المشاركين في المؤتمر ناقَشوا قضايا بعينها تثير الجدل مشيراً إلى أن “حالة الركود الفكري في العالم العربي سخيفة”، وضرورة “طرح المسائل كلّها على الطاولة”، وانتقد تصريحات رجال دين تؤكّد أن “الأزهر” هو الجهة الوحيدة المخوّل لها تجديد الخطاب الديني، معتبراً أنها تعبّر عن “كهنوت من العصور الوسطى”.
موقف المؤسسة الدينية الأكبر في مصر بدا متشكّكاً بتأسيس “تكوين” ومؤتمرها، حيث علّق عباس شومان الأمين العام لهيئة كبار العلماء في الأزهر، عبر صفحته الشخصية على “فيسبوك”، أول أمس الاثنين: “تُتابع الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء حقيقة ما ينشر عن تكوين كيان للنيل من ثوابت الدين وأخلاقيات وقيم الأمة”.
لم نسمع أنّ هناك إبادة في الجوار
وكما هو متوقّع أيضاً فإنّ “مؤسسة تكوين” التي تُعرِّف عن نفسها بشعار طويل عريض وبأنها “تعمل على تطوير خطاب التسامُح وفتح آفاق الحوار والتحفيز على المراجعة النقدية، وإعادة النظر في الثغرات التي حالت دون تحقيق المشروع النهضوي الذي انطلق منذ قرنين”، لم تجد في الإبادة الصهيونية المُرتكَبة في غزّة أي مُحفِّز حتى تتناوله في الأوراق التي تضمّنها هذا المؤتمر التأسيسي، فكان من باب أَولى على جهة تتّخذ من القضايا الفكرية مَركَزاً لاهتماماتها، أن تُساجِل انطلاقاً من موقع مُنحاز لحقّ شعب سُلبت أرضُه، ويتعرّض لإبادة جماعية مُستمرّة منذ أكثر من نصف عام. لكن طبعاً هذه القضايا ينأى ويتعالى “التنويري” العربي عليها، لأنها تشكّل واقعه، وهو يأنف من هذا الواقع ويتبرّأ منه، ويُؤثِر عليه السلطة التي تُنكِّل بمَن دونها.
مسألة لا يمكن تغييبها، وتتّصل بادّعاء التسامح والحوار مع الآخر، لكن ذلك يسقط مع تقديم محتوى يستند إلى إقصاء وإلغاء وتحقير أي تيار أو فكر في الثقافة العربية يتعارض مع أفكار هذه “المؤسسات”، ومحاكمتها بأثر رجعي خلال ألف وأربعمئة سنة مضت في تجاهل تام لأية سياقات عامة حكمت حركة التاريخ، بينما يبالغ دعاتُها بالانفتاح على كلّ أتباع الديانات والعقائد والثقافات الأخرى والتأكيد على أهمية التعايش معهم.
وعند تصفّح الموقع الإلكتروني للمؤسسة، يتشكّك المرء بصحّة الأهداف المنشودة مع تجميع مقالات ودراسات وفيديوهات يبرز تفاوت كبير في مستواها، حيث تغلب على معظمه سطحية القراءة وانتفاء أسس البحث العلمي والموضوعية، وما يجمعها هو عناوينها المستفزّة، مثل: “قصة مقتل عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، والحسن بن علي”، و”نهايات الخلفاء الراشدين.. قصة مقتل عمر بن الخطاب وأبو بكر الصديق”، و”هل الخمر حلال شرعاً؟”، و”الفتوحات الإسلامية.. احتلال وغزو؟”، وغيرها.
للأسباب الآنفة وغيرها، يبدو أنّ المنجز الوحيد لـ “المؤتمر”، الذي بدأ بانتقاص قَدْر الشخصية التي كان ينوي تكريمها، وعَمِل على تعبئة كُتّاب وأساتذة جامعيّين من بُلدان عربية مختلفة، هو مروره وانقضائه سريعاً بلا أي أثر يُذكَر.