أكرم الصوراني.. يكتب من خيمته في رفح

بقلم: أكرم الصوراني 

تحتار وأنت تختار لفيصل حوراني عنوان أو كلمة تُقَولبه أو تَصفه وتسأل من عرفوه عن قُرب وعن بُعد.. هوّا مين فيصل..؟ مناضل ..؟ كاتب ..؟ أديب ..؟ مؤرخ ..؟ ناقد ..؟

أم ساخر وصاحب نكته سياسيه لاذعه..؟ كنت كلما أسأل هذا السؤال أجد حيره في توصيف الشخصية حتى وصلت لقناعه ذاتيه وموضوعيه وهي أن أصدق وأقرب وصف لفيصل هو أن تقول فقط هو ‘فيصل حوراني’ الاسم بذاته ‘براند’.. ليس لأن فيصل علم بل لأنه فكر وقلم..

كنت أحد المحظوظين الذين جالسوا فيصل حوراني رغم أني من عمر بناته، فصداقة والدي لفيصل كما كان يناديه وكما تحب لمى أن تناديه حتى في قبره، كانت كلمة السّر في اكتشاف كائن جديد بالنسبة لي، شخص غريب الأطوار، ملفت للانتباه وللعقل..

من أول لقاء على سفرة ‘والدي’ أبو جمال والذي كان يحرص دوماً على حضور ‘فيصل’ على سفرة البامية أو المقلوبة أو ما تيسّر من وجبة غداء كلما جاء إلى غزّة، كنت أجلس على السفرة بين قامتين كبيرتين أنسى البامية والمقلوبة وألتهم النقاش الذي يدور بينهم، كان يُهَيّء لي أن شاشة مونيتور أمام عين فيصل التي تكاد لا تتوقف عن الرَّمش، يسترسل كثيراً ويُغرقك في تفصيل كل تفصيله ويسرح فيك من حكاية الى رواية ثم يعود لأصل الحكاية، كنت استمتع واستمع جيداً له خاصة وانا الذي يعشق التفاصيل!

في مكتبة والدي بغزّة العديد من كتب فيصل حوراني، ‘الفكر السياسي الفلسطيني’، ‘جذور الرفض الفلسطيني’، وروايات لا تسعفني الذاكرة على استحضارها وقد يسعفني جوجل لاحقاً، لكن دائماً كان يقول لي والدي ‘ضروري أكرم تقرأ دروب المنفى لفيصل هادي سيرة ذاتيه، فيصل مش بس بكتب رواية ولا بسرد حكاية ولا بستحضر تاريخ، فيصل يا أكرم بكتب أدب’ ‘دروب المنفى’ كان من أهم الكتب التي يحرضني والدي على قرائتها وكنت ومازلت قارئ رديء!

ولأنّي ‘يوتيوبي’ الهوى تعوّدت على التعلّم بالاستماع أكثر من التعلم بالقراءة عندما ألتهم أيّ كتاب أو قصّة أو مؤرّخ أو فيلسوف أو روائي، فما بالك وأنت تتناول وتلتهم صاحب العين الواحدة صاحب العين الناقدة على لقمة واحدة!

رحل صاحب العين الناقدة، رحل فيصل حوراني وترك لنا ذاكرة، وتركنا ذاكرتنا، نسيناها في غزّة، وتركنا حاجات وأسئلة واجابات، وربّما لدواعي أمنيّة أتحفظ مرحلياً على البوح بها، ففي ربيع تأبين فيصل حوراني أسئلة في ذمّة ‘أكتوبر’، وأسئلة في وجوه النازحين، وعذابات المُشرّدين، وفي وجه الخيمة خيبه كبيرة ونكبه جديدة، أتخيّل لو أن فيصل معنا الآن في الخيمة كان سيكتب ‘كُروب المنفى’..

كُروب ما بعدها كروب يا فيصل! أتخيّلك لو كنت بيننا اليوم في الخيمة كنت ستسأل بعينك الواحدة الناقدة ‘ماذا حدث للفلسطينيين؟’ سؤال يصلح عنواناً لكتاب على غرار كتاب جلال أمين ‘ماذا حدث للمصريين؟’.

كنت ستتناول فيه فقه الأولوية حول مستقبل القضيّة، وقلّة الحيلة، والخذلان، والخرس الاسلامي والعربي، وكنت ستخوض في جدليّة ‘ما قبل أكتوبر و ما بعد أكتوبر كنت ستخوض في أولوية ترتيب ‘المنزل الفلسطيني’ وترتيب الخيمة.. واسمح لي أفضفض لك من قلب الخيبه وأحكيلك لا تقلق فالحرب حققت انجازات غير مسبوقه!

أولادي ‘أحفاد صديقك أبو جمال’ كانوا يذهبون للمدرسة ويحملون الكتب على ظهورهم كما حمالة الحطب نَحَلت أجسادهم وانحنت ظهورهم وألقوا الكتب في النار علّها تزيد من لهب الحطب وَلَّعوا بالتاريخ يا فيصل وبالجغرافيا وبالتربية الوطنيّة وهذا انجاز غير مسبوق!

كان لدينا بيت متواضع لطالما زرتنا فيه في شارع النّصر بغزّة ‘هوّا اللي طلع أبويا فيه من الدنيا’ صار عنّا خيمة وصرنا ننام فيها وعاملين ‘رحلة سفاري’ مفتوحة ومجانية وهذا انجاز غير مسبوق!

كان آخر همنا الأكل، صار أوّل همنا الأكل.. ولو تشوف الناس وهيّا بتهجم على قوافل المساعدات وبتحاول ‘تسرقها’ كان شفت إشي لأول مرّة تشوفه بحياتك.. كان شفت الفقر وهوّا بمشي على عكاز، وكان سمعت الجوع وهوّا بيكفر بنص الشّارع وهذا انجاز غير مسبوق!

كان شفتني وأنا واقف طابور عشان أستلم كيس طحين وكان حكيتلك كيف الهوية طلع إلها أهميّة، وكيف العِشرَة هانت على اتنين من أعز أصحابنا ‘عزّة النَّفس’ و’الكرامة’ ومع إنُّه العِشرَة ما بتهون إلا على أولاد الحرام.. هانت عليهم العِشرة.. وهُنّنا على أنفسنا وهذا انجاز غير مسبوق!

كانت تدفّينا حيطان بيتنا وكانت لمّة العيلة أحلى ما في العيلة.. بعد الحرب صار كل حدا في مكان وصار السّفر ع الدّور كشوفات ودولارات وعائلات بتسيب البلد وتهاجر أسراب زي الحمام الزاجل وهذا انجاز غير مسبوق!

صارت النّاس تبيع سياراتها ومصاغ ذهب زوجاتها بثمن رخيص وتافه من أجل تأمين مبلغ الهروب وهذا انجاز غير مسبوق!

كنّا ولا مَرّة نتخيّل كيف في ناس بتنام في خيمة بين السّما والأرض.. بالشّارع.. تترك بيوتها وتنام بخيمة.. بطّلنا نتخيّل.. صارت الخيمة حقيقة.. نسينا حياتنا قبل الحرب.. كإنها كانت حلم.. راح البيت وراحت كل تفاصيل حياتنا.. وتشفّرت أحلامنا.. وتفرمَتَت ذكرياتنا.. وصارت الخيمة بيتنا.. وصرنا مشرديّن وهذا كله انجاز غير مسبوق!

وبلا ما أطوّل عليك وأزعجك في قبرك بالانجازات غير المسبوقه، موجودة كاملة على صفحتي ممكن العزيزة لمى تقرئلك إياها على فضاوة..

بدّي أحكيلك سر ما حدا بعرفه، بنتك الغالية لمى عملتلنا جوازات السّفر وصراحه لسّه معندة مش راضيه تاخد الفلوس أبصر لمين طالعه عنيدة..! المهم مش عارف متى وكيف راح أستلم الجوازات، القصف الآن ‘على أبو وِدنُه’ في رفح، وكل ليله بحكي ‘هادي الليله شكلها صعبه’ بس أوّل ما تزورني الشمس الصبح بفتح عيني نص فتحه بشوفها باعته رسالة غريبه ‘لقد تم شحن رصيد حياتك..

مبروك لقد حصلت على حزمة اضافية من النجاة! لحظة القصف وأصوات الانفجارات من حولك وخاصة ليلاً تشعر وكأنّ الليل ينادي عليك بصوت يُشبه صوت اسطوانة جيش الدفاع وهي تطالبك بالاخلاء فوراً.. عُذراً لقد نفذ رصيدك في الحياة يُرجى المحاولة فيما بعد.. في تلك اللحظة العصيبه إما أن تَشحَنك الصّدفة برصيد فوري اضافي من حياة أو أن تُصبح خارج التغطيّه!

شكراً للصدفة يا فيصل، الصدفة التي كنت ووالدي تتفقوا دائماً على إنّو فش إشي اسمه صدفه وإنّو ‘الصدفة هيّا عجزنا عن تفسير الظواهر وأنا واتنين مليون ونص مليون غزّاوي عاجزين عن التفسير الآن، وحتى انتهائي من كتابة ما أكتبه في ذكرى تأبينك، أو لحظة تَبَخُّري فجأة هكذا دون مقدمات، ولحظة وصولي إليك وتحوّلي لغيمة مثلك سأنهمر في البكاء وأنهمر في سؤالك عساني أعرف منك ماذا حدث لنا ؟ ولماذا وصلنا إلى هنا ؟ وهل الثّمن الذي ستتم جبايته محرز أم أنّه أسخف بكثير مما وصلنا إليه..؟

متى سأكون عندك لا أدري، كل ما أعرفه أنه قد تم شحني برصيد اضافي وحصلت على حزمة إضافية من النّجاة.. حزمة إضافيّه من حياة.. وربحت يوم جديد!

وإلى أن ألتقيك في غيمة.. حالياً أنا وصديق عمرك أبو جمال في الخيمة.. سلملنا على كل الأصدقاء طرفك.. سلّم على محمود درويش واحكيلو أكرم ‘منذ الخيمه غَيره!’

وسلّم على شقيقك العزيز د.رباح (أبو مروان) احكيلو السيجارة الواحدة صارت بعشرين شيكل، كان مُدخن شَرِه زي ما انت عارف، وكانت مشكلة لو كان بيننا اليوم، احكيلو الناس متمسكه بالأرض وبسابقوا الزّمن لتأمين مبلغ خروجهم من الأرض! احكيلو أم مروان وحسن ومؤنس ومؤمن وباقي أفراد العائلة حتى اللحظة بخير وبغزّة وبرفح وبالزوايدة وبالوسطى وبالوجع وبالألم وبالوحل وبالخيمة.. خيمة تخيبنا يا فيصل!

بالمناسبة، رفيق عمرك أبو جمال وصل الثامنة والسبعين في الحرب ووصل الخيمة في مواصي رفح بعد رحلة نُزوح مُضنيه لم يكن يتخيلها في أسوأ كوابيسُه، ولكنه استيقظ فجر 13/أكتوبر/2023 على النبأ الكابوس هو والعظيمة التي كانت تُعِد لك البامية والمقلوبة أم جمال، كنّا مضطرين تحت شدة القصف وتهديدات سرعة الاخلاء النزوح نحو الجنوب، تركنا البيت في لحظات صمت ورعب وقصف يكسر ذهولنا ، ويكسر الظهر والقلب!

وصلنا خانيونس، ووصلنا رفح، ووصلنا الخيمة التي كتب عنها غسان كنفاني وإنّو خيمة عن خيمة بتفرق! يبدو بعد سنوات العمر التي ناضلت وحلمت فيها أنتَ وأبو جمال وكل أبناء جيلكم يمكنني تأكيد مقولة غسان خيبه عن خيبه بتفرق! ما يحدث معنا اليوم في قطاع غزة تعدّى حدود الخيبه وحدود النكسه، هي نكبة ثانية ثلاثية الابعاد، أشد وأقسى من نكبة 1948!

وصل رفيق عمرك أبو جمال الثامنة والسبعين في الحرب وكانت لا تستوقفه عبارة كل عام وأنت بخير، ما انت بتعرف كانت تستفزه هاي العبارة كتير وكان يستفزه العيد، الآن تستوقفه العبارة كثيراً، ففي كل دقيقة في غزّة نجتهد في البحث عن الخير، وعن الأمان، وسط بقعة من الدم يأكل فيها الناس كل شيء عدا الأكل، يطبخون كل شيء عدا الطبيخ، هنا من السُّخف أن يسألك أحد عن حالك لأنّ من السُّخف أن نقول له أننا بخير، ليس لأننا لسنا بخير لأننا فقط نقول لمن يسأل ‘مازلنا أحياء’ في عالم مُزيّف، لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم عن مجاعة في غزّة، وحرب طاحنة، وبذخ في الموت..

*عمّي العزيز فيصل..* من تحت القصف، من فلسطين من غزّة، إلى خانيونس، إلى رفح، إلى الخيمة، وصلنا بالسّلامة الى المجهول ولم تصل أحلامك وأحلامنا بَعد، ولم تصل آمالك وآمالنا بَعد وأخشى أن تكون تَبَخّرَت في الطريق!

فلسطين / غزّة / خانيونس / رفح / المواصي / الخيمة / دير البلح / المجهول!.. #خيمة_تخيبنا

* كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى