اليمن إلى أين؟ (ورقة تحليلية)

 

سوث24 | أورنيلا سكر ، عين الجنوب

تقدم هذه الورقة قراءة تحليلية لواقع الصراع الحاصل في اليمن عبر عرض موجز واستشرافي، لطبيعة التوازنات الداخلية والخارجية لليمن، والتأثير الجيوسياسي على مسار التسوية اليمنية وحول شكل الحل المحتمل للتسوية اليمنية.

ربما  يكون التوصيف الأدق لما يشهده اليمن في هذه المرحلة، هو أنه يعيش حالة من اللاحرب واللاسلم، بعد فترة من هدنة جرى تمديدها لعدة أشهر بفعل متغيرات دولية وخارجية انعكست على الداخل اليمني. إذ أن دخول النزاع في اليمن عامه التاسع؛ جاء أيضاً في ظل متغيرات إقليمية ودولية معقدة يتعذر معها التكهن بانعكاساتها المحتملة لتلك المستجدات على مستقبل الصراع في هذا البلد المضطرب. ويمكن في ضوء ذلك طرح عدة تساؤلات، إلى أي مدى تنجح التسوية في اليمن عقب الاتفاق السعودي الإيراني برعاية الصين؟ وهل تلتزم إيران بالشروط التي فرضت عليها؟ وما هي تحديات وفرص التسوية السياسية في اليمن؟

الباحثة اللبنانية أورنيلا سكر

بدايةً، يمكن التطرّق لذلك وفقاً لمستويين، داخلي وخارجي.

أولاً: المستوى الداخلي

·أزمة الهويات الفرعية التي تنفجر في لحظة ما، كحالة اليمن اليوم، هي تعبير جلي عن عمق أزمة الهوية الوطنية ككل، من خلال عودة المكونات المجتمعية نحو هوياتها الثانوية والفرعية مذهبية أو قبلية أو جهوية، للاحتماء بها في مواجهة الهويات المنافسة التي تبرز على السطح في ظل غياب المشروع الوطني الجامع الذي تشكله حالة إجماع وطني على شكل ودستور وكيانية الدولة الوطنية التي تنمحي في ظل دستور يساوي ويحفظ كل الهويات الفرعية التي تعبر عن نفسها في ظل هوية وطنية جامعة وتتعايش كتنوع خلاق لا متنافر.[1]

·يطرح الجنوبيون بشكل مباشر وغير مباشر. وفقًا لهؤلاء، فإن مشكلة اليمن الأصلية تتمثل في قيام الوحدة، التي يرون أنها لم تقم على أسس صحيحة، وأن من الأفضل لليمن والمنطقة إعادة تقسيم اليمن إلى دولتين كما كانتا قبل إعلان الوحدة عام 1999

·”انفصال” جنوب اليمن والسيطرة عليه سيكون أهم الأهداف التي تحققت من هذه الحرب، لأنّ الجنوب إلى جانب أنه سيشكِّل حائط صد يمنع الحوثي من التمدد في الجنوب السني بعيدًا عن سيطرة الحوثيين، فإنه في الوقت نفسه سيشكل منطقة عازلة تمنع الحوثيين من إيذاء السعودية ومحاربتها[3].
·يعتقد الجنوبيون أن موقع جنوب اليمن ومساحته التي تمثّل ثلثي مساحة اليمن وشواطئه، التي تطل على جزء من مضيق باب المندب وخليج عدن والبحر العربي هي أكثر أهمية استراتيجيًّا من بقية اليمن، وأن هذا الوضع يتطلب من السعودية فصل الجنوب وإبقاءه ضمن مناطق نفوذها، بدلًا من حالة اليمن الواحد الذي هو خطر استراتيجي على السعودية، وفقًا لهذا الاعتقاد.[4].

·بالمقابل البعض يخشى أن يفتح أي دعم سعودي لاستقلال جنوب اليمن، الباب أمام قوى يمنية تتنصل من اتفاقية الحدود التي أُبرمت مع المملكة، عام 2000، ورسمت الحدود بينهما، كون تلك الاتفاقية تمت مع الجمهورية اليمنية.

·هيمنة قوى سياسية على مؤسسات الدولة وتحديدًا مؤسسات السيطرة والجباية المالية.

·ضعف السلطة المركزية وتراجعها لصالح القوى المناطقية.

.استمرار التدخل الخارجي الكثيف في جميع المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية.

·ترحيل الحلول الدائمة إلى المستقبل، والدخول في مرحلة أو مراحل انتقالية وفق تسويات جزئية غير حاسمة.

·الخلافات الدائمة حول تنفيذ بنود التسوية، والاتهامات المتبادلة بخرقها.[5]

ثانياً: المستوى الخارجي

·لا يمكن فصل الأحداث الدولية وما رافقها من تداعيات وأزمات على إمكانية نضوج التسوية السياسية في اليمن، وبخاصة في ظل قيادة ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان”، ورؤيته للتنمية الاقتصادية 2030، والتغيرات التي قد تلامس الحل في اليمن فيما لو نجحت التفاهمات بين الرياض وطهران برعاية بكين. فاليمن يواجه اسوأ كارثة إنسانية جرّاء الصراع الممتد منذ 2014، والذي على إثره حدث انقسام مجتمعي وتشظي سياسي وانهيار للمنظومة الاقتصادية وتفكك للجغرافيا السياسية، وهذه العوامل مجتمعة قادت إلى هشاشة الدولة.

·مع تطورات الحرب الأوكرانية حدثت تغيرات في المواقف الدولية، ما أدى إلى بروز دور اتجاهات قيادية لدى بعض الدول، أمثال المملكة العربية السعودية عبر التوجه نحو الصين وروسيا والكف عن التبعية للولايات المتحدة، وهذا ما كان واضحاً في قرارات الرياض تجاه الولايات المتحدة على خلفية رفع الإنتاج النفطي. الأمر الذي ينعكس بشكل تنافسي في المنطقة ككل؛ ويؤثر على اليمن نظراً لأهميتها الجغرافية وموقعها على بحر العرب ومضيق باب المندب والبحر الأحمر، إذ أن من يسيطر على اليمن يتحكم في الملاحة العالمية وتصدير النفط.

·في سياق متصل،  نشرت صحيفة فورين بوليسي الأمريكية في السابع والعشرين من يناير 2023، أي قبل الإعلان عن الاتفاق بحوالي شهرين، تقريراً بعنوان:” لماذا لا تريد السعودية سقوط النظام الإيراني، تحدثت فيه عن تغير في الاستراتيجية السعودية تجاه طهران، وبأن المملكة باتت تعتقد أن بقاء النظام الإيراني أقل تكلفة عليها من انهياره، وأن التعامل مع إيران بشكلها الحالي أفضل للمملكة من العمل على إسقاطه، وهذا بفعل أن أي تحوّل ديمقراطي في المنطقة أو في اليمن بشكل خاص.

·رغبة الصين في ملئ الفراغ في الشرق الأوسط بعد الانسحاب الأمريكي من المنطقة، ربما يحقق مزيد من الاستقرار والأمان لليمن، وبخاصة أن الصين شريك يمكن الوثوق به وبتعهداته.

·إن التفاهمات الإيرانية –السعودية اليوم تحقق فرصاً عديدة لكل من الطرفين عبر الدعوة إلى الاستقرار والتهدئة في منطقة الخليج العربي.

تحديات وفرص التسوية السياسة في اليمن

التحديات:

·إشكالية بناء الدولة الحديثة في اليمن والتي أدت إلى تركيبه معقدة، همّشت فيها فصائل بعينها، مما أدى إلى حالة من الغضب المتراكم عبر عقود عدة.

·إن تعثر مسار المفاوضات لتسوية الأزمة اليمنية يرجع بالأساس إلى إشكالية بناء الدولة الحديثة، وعدم تأصل مفاهيم الديمقراطية والدولة القومية، فلازالت اليمن تقوم على الولاءات الضيقة بدرجة أساسية. إذ يعاني الشعب اليمني من مورثات عهدي الإمامة والاستعمار من نوازع الولاءات بحكم العزلة لعهود طويلة، وانعكاس ذلك على بناء الدولة الحديثة بظهور إشكاليات أضعفت من الإدارة الحديثة وتعثّرت فيها ممارسة الديمقراطية، كون اليمن تعتبر إحدى بلدان الديمقراطيات الحديثة العهد، وهو ما أثّر بالتبعية على سير بناء دولة الوحدة على أسس المساواة والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وغيرها من الإشكاليات التي واكبت سير العملية السياسية. مما ساهم في وجود فصائل تؤثر المصلحة المذهبية والقبلية والجهوية على وحدة الدولة اليمنية، وهو ما تسبب بالمحصّلة إلى عدم تنفيذ التسويات السياسية التي تصب في الصالح اليمني ككل.

·كثرة الانقسامات الداخلية للمجتمع اليمني وتشاطر البعد المذهبي مع البعد القبلي والجهوي، مما تزايد معها الانقسامات والمشكلات الداخلية والخصومات بين الفصائل المختلفة، إلى جانب ارتفاع معدلات الفقر والقيود المفروضة على الموارد، أدى إلى نشوب مزيد من الصراعات المحلية. ومن غير المرجّح أن تكون الحكومة الحالية قادرة على التعامل مع هذه القضايا، خاصةً أن الرئيس الأسبق “علي عبدالله صالح”، عمل على هيكلة قوات الأمن من الجيش والشرطة، بحيث يكون غالبية أفرادها من الشماليين على حساب الجنوبين، وبالتالي أدى انسحاب قواته إلى فراغ أمني في عدن وغيرها من محافظات الجنوب.

·إنّ عدم توسيع نطاق تمثيل مختلف الفصائل اليمنية في مفاوضات السلام الجارية بين الحكومة الشرعية والحوثيين، سيؤدي إلى استمرار القتال الذي سيدفع باليمن نحو مزيد من الفوضى.

·ركزّت كافة عملية التفاوض على عملية وقف إطلاق النار وليست مفاوضات السلام، وربما سبب ذلك الانتهاكات المتكررة من الحوثيين مما يؤدي ذلك إلى صعوبة التفاوض بشأن موضوعات أخرى غير إطلاق النار.

·إشكالية نزع السلاح ورفض الحوثيين تسليمه، إذ يتضح في مختلف مراحل المفاوضات أن ملف أسلحة الحوثيين هو أحد الأٍسباب الرئيسية التي عرقلت أي حل سياسي يُنهي الحرب في اليمن ويقود إلى عملية سلام شامل. يأتي الإصرار الحوثي على عدم تسليم السلاح؛ تحسباً في عدم حصولهم على تمثيل واسع في الحكومة الانتقالية، وخاصة الوزارات السيادية كالدفاع والداخلية. يتذرع الحوثيون بعدم إدراج “الصواريخ البالستية” ضمن بند تسليم الأسلحة الثقيلة، لكونّه السلاح “السيادي” حسب زعمهم، فهو للردع والتوازُن الإقليمي، والتنازل عنه لا يخضع لتدابير تسليم الأسلحة بين الأطراف اليمنية، وإنما يرتبط بإنهاء الوجود العسكري لقوات التحالف العربي في اليمن، وإخراج اليمن من أحكام الفصل السابع في ميثاق الأمم المتحدة، وإنهاء الحصار[6].

·       إن الصراع في اليمن لا يمكن تحليل أسبابه وأسباب تعثر التفاوض بشأنه بمعزل عن الحرب والصراع الإقليمي بين كلٍ من إيران والمملكة العربية السعودية، إذ إنّ الصراع السعودي الإيراني في اليمن، دخل مسارًا شديد الخطورة منذ سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء في 21سبتمبر 2014. كما إن التفاهم الإيراني-السعودي مناط بتحديات عديدة وبخاصة أن الطرف الإيراني ينتهك ولايزال الحدود السعودية –الكويتية عن طريق حقل الدرة. [S21]

الفرص:

إن عملية التسوية السياسية لن تتم إلا في إطار:

إنهاء القتال.

سحب القوات وتسليم الأسلحة الثقيلة والمواقع الرئيسية.

تشكيل حكومة تتسم بالشمولية وتضم جميع الأطراف.

متابعة بناء عملية السلام، واستئناف مسار الانتقال الديمقراطي، وهي المرحلة الأشد تعقيدًا، لكن لازالت هناك فرصة في ظل وجود الحوار بين مختلف الأطراف اليمنية.

إنّ إطلاق سراح 900 أسيراً ومختطفاً، قد فتح باب التفاؤل لإمكانية تحقيق التسوية السياسية، بما يخفف من وطأة المعاناة الإنسانية.

وقف خطاب الكراهية والتحريض الطائفي والجهوي.

سعي السعودية للخروج من حرب اليمن والتفرّغ لتحقيق رؤية المملكة الاقتصادية 2030، وهذا لن يتحقق بدون ضمانات أمنية لحماية منشآتها من الاستهداف[7].

مستقبل اليمن والسيناريوهات المحتملة

لا ينظر المتصارعون داخل اليمن إلى أنّ التفاهم السعودي الإيراني من الممكن أن يطرح حلاً شاملاً للأزمة، بقدر ما ينظر لها كمرحلة من أجل إنهاء التصعيد المسلح ضد السعودية، وذلك عبر إدارة هدنة مؤقتة، لأن هيمنة ذهنية المنتصر واستعراض القوة لدى الحوثيين وتجاهلهم المرجعيات الثلاث المعلنة لعملية التسوية السياسية، فضلاً عن تجاهل القوى اليمنية الأخرى التي يمكنها المشاركة في المشاورات النهائية، لن يدخل اليمن في عملية سلام، أو ينهي الحرب.

إذ إنّه بعد أكثر من 8 سنوات على الحرب، بات من المستحيل التعويل على الحسم العسكري، فالرياض تسعى إلى مغادرة دائرة الصراع، لكن من الأهمية بمكان النظر إلى تكلفة ذلك، فإنهاء وجود التحالف العربي من دون عملية سياسية متماسكة سيؤدي إلى انكشاف الشرعية أمام الحركة الحوثية، خاصة وأن الشرعية لا تزال “حالة فصائلية”، بما يعني أن الشرعية نفسها تعاني صراع تعدد المشروعات السياسية رغم تشكيل مظلة مجلس القيادة الرئاسي. ويؤخذ في الاعتبار أن السعودية حالت دون تمدد الحوثيين خارج دائرة جغرافيا الانقلاب السياسي في صنعاء، كما أن الإمارات أفشلت التمدد جنوباً، فضلاً عن تأمين عملية عدم الانكشاف الاقتصادي للشرعية.

كذلك يُعتقد أن إطلاق مسار تسوية سياسية من دون تفاهمات أو ترتيبات أمنية، سيشكل معادلة تهدد أي عملية سلام أو تسوية ممكنة في المستقبل، خاصة وأن الحركة الحوثية تعيد بناء قدراتها العسكرية، ، مستفيدة من تجميد التحالف لعملياته العسكرية، وتتعامل كما لو كانت في مرحلة استراحة محارب، وبالتالي فإن أي مسار سياسي يتطلب أن يتوازى مع مسار عسكري، بالإضافة إلى المسار الاقتصادي والمسار الإنساني لمعالجة التدهور المستمر في المشهد اليمني.

وإلى جانب ما سبق، يمكن النظر إلى أن معادلة القوى الدولية في الأزمة اليمنية هى معادلة صعبة ومعقدة، فالأطراف المنخرطة دولياً ليست محل توافق بين أطراف العملية السياسية، ففي كل الخطابات الحوثية الرسمية يتم تحميل الولايات المتحدة مسئولية فشل عملية السلام أو التسوية السياسية على الرغم من أنه لا توجد عملية سياسية بالأساس، كما أن تقاطع الدورين الأمريكي والصيني في الإقليم سيقود إلى حالة الاستقطاب التي ستقود بدورها إلى استدارة في الصراع وليس تسويته، ومن ثم يحتاج اليمن إلى عملية سياسية مدعومة دولياً.

ومع ذلك، لا يمكن التقليل من دور الولايات المتحدة بالتعاون مع القوى العربية المعنية بأمن الخليج والبحر الأحمر في تقويض تدفق الأسلحة الإيرانية إلى اليمن، ولا يعتقد أن الحركة الحوثية بمقدورها إنتاج الأسلحة أو تطويرها على نحو ما تصدره إعلامياً، وبدون دعم إيراني ستتعرض الحركة الحوثية لانكشاف عسكري في المستقبل.

وفي الختام، لا يعتقد أن عملية تسوية الأزمة اليمنية ممكنة في ظل غموض طبيعة المرحلة الراهنة، ما بين إدارة الهدنة وتعثر تطويرها إلى عملية تسوية سياسية في المستقبل[8]، وتقاطع مشروعات كافة الأطراف المعنية (المحلية والإقليمية) مع عملية التسوية. وفي المقابل، يمكن القول إن إهدار فرصة تطوير التهدئة الحالية إلى عملية سياسية سيشكل صعوبة في اقتناص فرصة مماثلة في المستقبل، ومع ذلك لا يعتقد أن السيناريو التالي في اليمن هو سيناريو التسوية السياسية، فالأقرب إلى الواقع هو الاستمرار في عملية إعادة تشكيل خريطة اليمن كساحة لتوازنات القوى وجماعات المصالح والمشروعات الجهوية التي تستند لاعتبارات يشكلها مزيج من العصبيات التي تفرضها الانتماءات الأوّلية إلى ما قبل الدولة، وبالتالي تكمن معضلة اليمن ليس فقط في إنهاء دورة الصراع والانتقال لدورة التسوية، وإنما أيضاً في غياب معيار الدولة الوطنية التي يتصارع الجميع باسمها.



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى