الجنوب العربي .. ركيزة الأمن والاستقرار الدولي

في عالمٍ تتسارع فيه التحولات الأمنية وتتراجع فيه قدرة المنظومات التقليدية على احتواء الأزمات، لم تعد الجغرافيا مجرد إطار صامت للصراعات، بل تحوّلت إلى عنصر فاعل في رسم ملامح الأمن الإقليمي والدولي.
وفي قلب هذه المعادلة الحساسة، يبرز الجنوب العربي أحد أهم ركائز الاستقرار، وصخرة صلبة تتحطم عندها مشاريع الفوضى ومحاولات العبث بأمن المنطقة والممرات الدولية.
لم يعد الجنوب مجرد ساحة مؤجلة أو ملف قابل للمقايضة، بل أصبح عنصر توازن حقيقي يستند إلى موقع جغرافي فريد، وإرادة شعبية راسخة، وقوة سياسية وعسكرية متماسكة تقودها قيادة مفوضة، يتقدمها الرئيس القائد عيدروس قاسم الزُبيدي، الذي أعاد للقضية الجنوبية حضورها السياسي، ورسّخ موقع الجنوب كلاعب لا يمكن تجاوزه في معادلات الإقليم.
كما يمثل الجنوب العربي البوابة الجنوبية للبحر الأحمر وخليج عدن، ونقطة الارتكاز الأهم حركة الملاحة العالمية وخطوط إمداد الطاقة المتجهة إلى أوروبا وشرق آسيا إن أي اضطراب أمني في هذه الجغرافيا لا يظل محصورًا ضمن حدوده المحلية، بل ينعكس مباشرة على التجارة الدولية وأسواق الطاقة وتكاليف الشحن والتأمين، ما يجعل من استقرار الجنوب ضرورة دولية لا تقل أهمية عن كونه مطلبً وطنيًا مشروعا.
وقد أثبتت السنوات الماضية أن القوات المسلحة الجنوبية، وفي مقدمتها قوات النخبة الحضرمية، شكّلت الشريك الأكثر فاعلية وجدية في مكافحة الإرهاب وتأمين السواحل ومواجهة شبكات التهريب والجريمة المنظمة وأسهم هذا الدور بشكل مباشر في تقليص الفراغات الأمنية، وتجفيف منابع التنظيمات المتطرفة، وتحويل الجنوب من ساحة مفتوحة للفوضى إلى خط دفاع متقدم عن الأمن الإقليمي والدولي.
غير أن هذا المسار تعرّض لأمر خطير عقب القصف الجوي الذي استهدف مواقع لقوات النخبة الحضرمية في محافظة حضرموت، في تطور أثار صدمة واسعة في الأوساط الجنوبية، وطرح تساؤلات جدية حول طبيعة الشراكات المعلنة، وحدود الالتزام بشعارات مكافحة الإرهاب وحماية الاستقرار. وجاء هذا التطور في وقت كانت فيه تلك القوات تخوض مواجهات مباشرة مع جماعات مسلحة، وتؤدي دورًا محوريا في حماية الأرض وتأمين السواحل.
وعلى إثر ذلك، أطلق ناشطون جنوبيون حملة إعلامية واسعة تحت وسم #العدوان_السعودي_على_الجنوب، عبّروا من خلالها عن رفضهم القاطع لاستهداف القوات الجنوبية، معتبرين أن ما جرى أسقط نهائيًا خطاب “الشراكة” وكشف عن سلوك عدائي مباشر واستندت هذه الحملة إلى بيان رسمي صادر عن المنطقة العسكرية الثانية، أكد تنفيذ طائرات سعودية ضربات جوية استهدفت مواقع لقوات النخبة الحضرمية أثناء الاشتباكات، وهو ما فجّر موجة غضب وتحولًا لافتا في الخطاب السياسي الجنوبي، الذي انتقل من توصيف السعودية كـ“شقيق” إلى تحميلها مسؤولية تقويض الأمن الجنوبي.
وفي هذا السياق، فإن تجاهل إرادة شعب الجنوب أو محاولة الالتفاف على قضيته الوطنية العادلة لم يعد خيارا آمنا أو قابلًا للاستمرار، فالتجارب السياسية القريبة أثبتت أن تهميش المطالب المشروعة لا يؤدي إلا إلى تعقيد الأزمات وفتح الباب أمام صراعات ممتدة تتجاوز حدودها المحلية لتطال الإقليم بأسره.
كما إن التعامل مع الجنوب كملف ثانوي أو كساحة قابلة لإعادة التشكيل وفق حسابات مرحلية يتجاهل التحولات العميقة في الوعي الشعبي الجنوبي، ويقوّض فرص الاستقرار المستدام، حيث تتحول المناطق التي تُغيب فيها الإرادة الشعبية إلى بؤر توتر دائمة، وتصبح مصدرًا لعدم الاستقرار وعبئًا أمنيًا واقتصاديًا على القوى الإقليمية والدولية، التي تجد نفسها مضطرة لإدارة الأزمات بدلًا من معالجتها من جذورها.
كما إن الاعتراف بالدور المحوري للجنوب العربي، ودعم مشروعه السياسي القائم على إرادة شعبه، لم يعد ترفا سياسيا أو خيارًا مؤجلًا، بل ضرورة أمنية ملحّة تفرضها معادلات الواقع فالدول والمناطق التي تمتلك مؤسسات شرعية وقوى أمنية منبثقة من إرادة شعبية حقيقية تشكّل حواجز طبيعية أمام تمدد الصراعات، وتمنع انزلاق الإقليم نحو الفوضى الشاملة.
وفي المحصلة، يظل الجنوب العربي حجر الزاوية في معادلة الأمن الإقليمي والدولي، ودعمه استثمار مباشر في الاستقرار والسلام، بينما يمثل تجاهله مقامرة خطرة بأمن الممرات الدولية ومستقبل المنطقة.
ولقد أثبت شعب الجنوب العربي وقواته وقيادته السياسية أنهم أهل لتحمل مسؤولية حماية أرضهم، وتأمين شرايين العالم الحيوية، والدفاع عن خيارهم الوطني، في رسالة واضحة مفادها أن الجنوب العربي لم يعد ساحة مستباحة، بل شريك فاعل وصاحب قرار لا يمكن تجاوزه.












