رواية وادي الذئاب المنسية. «الحلقة الثالثة عشر» والرابعة عشر

العاصفة نيوز/ خاص

رواية وادي الذئاب المنسية. «الحلقة الثالثة عشر» والرابعة عشر …

كنت لا أزال طريح الأرض مدكوك الرأس والوجه أسفل حذاء الجندي عندما أخذت كلاب الصيد تتسمم جسد ناي الغارق في دمائه قبل أن تطلق نباحًا نصيرا وتبتعد عنها في اتجاه عربة الجنود وكأنه إشعار منها أنها فارقت الحياة، حينذاك تقدم قائد الجنود نحو جثتها، فأغمضت عيني كي لا أرى ما سيفعله بها، لكنه اكتفى بنزع رمحه من صدرها واستدار سريعا ليأمر جنوده بأن ينسحبوا إلى عربتهم، توقعت أن يهوي سيف في تلك اللحظة على عنقي ليفصل رأسي عن جسدي إلا أنهم لسبب لا أعرفه تركوني ومضوا في طريقهم، فزحفت بصعوبة على يدي وركبتي اليمنى نحو ناي، كانت راقدة مغمضة العينين شاحبة كالثلج، احتضنتها وأنا أناجيها أرجوك يا ناي انهضي أرجوك لا تتركيني وحيدا، انهضي وسنغادر هذا البلد بأكمله، أرجوك. قبل أن أصرخ إلى عنان السماء صرخة جعلت طيور الأشجار تحلق من أعشاشها.

بعدما استعدت بأسي بعض الشيء مزقت بنطالي، ولففت قماشة منه بقوة حول فخذي النازفة، ثم حملت ناي عائدا إلى بيتها، بدا على أبيها وأمها أنهما كانا عائدين لبيتهما منذ قليل وقد بحثا عنها بعضا من الوقت دون أن بعرفا شيئًا عن مطاردة الجنود لها، جريا نحوي في جنون، ولما رأيا وجهها الساكن الشاحب وثوبها الغارق في دمائها توقفا مذهولين وكأن صاعقة

أصابتهما، قبل أن تصرخ خالتي ريحانة وهي تهز جسدها . وتنادي باسمها

قلت باكيا:

  • لقد قتلها الجنود، ولم أستطع إنقاذها.

هوى العم بهلول إلى الأرض يلطم وجهه فيما واصلت خالتي ريحانة عويلها ونداءها جثة ناي راجية لها بأن تنهض وضعت ناي إلى الأرض برفق وابتعدت خطوات باكيًا، فاحتضناها وهما ينتحبان غير مصدقين ريحات بعد دقائق تحسست خالتي ريحانة صدر ناي أسفل فستانها، ثم مزقت عنق الفستان كاشفة صدرها وكانها تبحث عن شيء ما، فأبعدت عيني قبل أن تغمغم إلى زوجها وهي تنشج:

  • لقد طعنت في قلبها، ماتت ابنتنا بلا رجعة.

وصرخت وهي تضم ناي إليها بكيت بحرقة أنا الآخر، ثم نهضت هائما متجها إلى حافة البحيرة التي جلست عندها في الليلة السابقة، وعندما وصلت إليها هبطت إلى أرضيتها، كانت القنينة لا تزال هناك سليمة كما ألقيتها التقطتها، وعدت إلى قريتي كان الجميع ينظرون نحوي في تعجب وانا أسير أعرج عاري الصدر ممزق البنطال، تتجلط الدماء على وجهي ورقبتي وظهري، وتتساقط من فخذي المُضمدة قطرات من الدماء، حاول البعض إيقافي لسؤالي عما حدث لم أتوقف سمعت البعض يتهامسون عن خبر مقتل ناي وكأن الجنود نشروه في القرية، فامتلأت عيناي بالدموع وانا أواصل تقدمي، كانت أمي تقف عند باب البيت، وحصان أبي معقولا في وتد على جانبه يأكل التين تقدمت، قالت أمي والدموع في عينيها:

  • إنني أسفة يا نوح، إنني آسفة يا بني. لم أجبها، وواصلت تقدمي أنظر إلى أبي الذي كان يجلس في المردمة يحدق إلي دون أن يقول شيئًا، لم أزح عيني عن عينه، فوجدته يحرك يده نحو فأسه التي كانت تقبع بجواره، واصلت اقترابي منه، ثم صرخت فيه:

  • لماذا؟!

قال في برود:

لن يتلوث نسلك بهم . لقد فعلت ما في مصلحتك.

زعفت فيه:

. إنك أحقر من رأيت في حياتي.

 

ثم أمسكت رأسه بقوة حاول أن : يضربني بفأسه، فأمسكت بمعصمه وضربت يده في مسند الأريكة التي كان يجلس عليها، فسقطت الفأس منها

صرخت أمي :

إنه أبوك يا نوح

قلت:

  • لا، إنه قاتل حبيبتي.

ثم قبضت على فكه السفلي باقصى قوتى لأفتحه، وبإبهام يدي الأخرى ازلت سدادة قنينة السم، وأفرغت ما فيها بالكامل في حلقه، ثم أغلقت فيه من جديد بإحكام، وعندما سقط أمامي ينازع اختناقه محتقن الوجه جاحظ العينين غادرت راكبًا حصانه عائدا إلى الغابة مرة أخرى.

 

في فناء بيت العم بهلول كان الجمود لا يزال مسيطرا على كل شيء، جثة ناي في الموضع نفسه الذي تركتها فيه، يجلس بجوارها أبوها وأمها هائمين ساكنين يحدقان نحوها بأعين زائغة ولا يدريان شيئًا من حولهما، نزلت من فوق حصاني وتقدمت إليهما، وحاولت النطق لكني لم أستطع، فجلست بجوارهما صامتا. لم يأتِ أي من أهل القرية لمواساتهما في مصيبتهما، كان جميعهم جبناء خشوا أن يتورطوا في إخفائهم أمر وجود ناي كل تلك السنوات فيعاقبهم الجنود، أنذال، مثلهم مثل أبي يستحقون جرعة كبرى من السم الأبيض.

عند اقتراب الشمس من المغيب نطقت إلى العم بهلول اخيرا بأصعب شيء قد أقوله:

أين تريدني أن أحفر قبرا سيدي؟ لم يجبني وظل صامنا غارقا في شروده، لكن خالتي ريحانه قالت وهي ترتشف دموعها:

نريد برميلا من القار الأسود أولا يا نوح.

تعجبت من طلبها، وتساءلت:

  • لماذا؟!

قالت بصوت تخنقه الدموع:

حتى لا يصلها ضوء الشاهد عندما يظهر في السماء من جديد نريدها أن ترقد في سلام إلى نهاية الزمان.

أطلقت زفيري في سأم، وهمست إلى نفسي:

  • النبوءة مجددا!

ثم حدثتها مفكرًا في أن الصدمة أتلفت عقلها:

. إن الشاهد إن ظهر سينهض الذئاب فحسب، خالتي.

قالت دون أن تنظر إلي:

والملديون كذلك

توقفت عند كلمتها مستغربًا، ورغم أنني كنت أشك فـي سلامة عقلها في تلك اللحظة فإنني قلت مؤكدًا ومستفهما في الآن نفسه:

  • لم تذكر النبوءة شيئًا عن الملديين الموتى.

قالت:

  • نعم هذا صحيح.

قبل أن تتابع:

لكن ما لا يعرفه الناس أن ما دون على حائط الرؤى هو نصف النبوءة فقط.

وأكملت . حين نظرت لها متعجبا من نبرتها الواثقة ، لقد كان جدي الأكبر، هو من استطاع تلقي رؤية الشاهد الأخيرة، ودون على حائط الرؤى الجزء المتعلق بالذئاب فحسب، أما الجزء المتعلق بنهوض الملديين مع الذئاب فاكتفى به لنفسه ولذريته من بعده خوفا من إحراق الناس لكل من يشكون في كونه ملديا.

أطلقت إيماءة مستنكرة، وقلت:

وما الفارق بين الموت حرقا والموت بأي وسيلة أخرى؟!

قالت:

اعتقد جدي أن الشاهد سيستطيع رؤية ذئب صامون، ويعاود الظهور خلال العشرة أعوام الأولى بعد اختفائه على الأكثر، قبلما تتحلل الأجساد وتصير عظاماً، لكن السنوات مرت تباعا ولم يظهر الشاهد وعندما شعر بقرب انتهاء أجله مرر لنسله من البشر قنائن السم كي يتناوله من يأت ملديا من ذريته ليموت بأعضاء سليمة ينهض بها إن جاء يوم وظهر الشاهد من جديد..

يبدو أن ناي لم تستطع استخدام قنينتها رغم أنني أفنيت عمري أحدثها كذبا عن تمثيل الجنود بجثتها إن أمسكوا بها، كنت أريدها أن تحتفظ بقلبها سليما لعل الشاهد يظهر قبل تحلل جسدها وتعود للحياة مرة أخرى، أما الآن فإن نهضت مع ذلك القلب الممزق داخل صدرها فلن تكون إلا شبحًا لا دماء فيه، ميتا يتحرك، لذا لا بد وأن نغطي قبرها بطبقة من القار مثل الوادي الأسود، لن يرحمها الناس إن نهضت، سيمزقونها وسيطعمونها للكلاب، حتى وإن لم يفعلوا فلا جدوى من

عيشها.

قلت مندهشا مما تقوله:

  • لا أصدق شيئًا من ذلك.

قالت مصممة:

  • إنها الحقيقة، أليس كذلك يا بهلول؟ كان العم بهلول لا يزال صامتاً محدقا إلى جثة ابنته، لكنه هز راسه إيجابا.

فكرت فى أن ناي ليست ملدية مكتملة الصفات يحملها صفات بشرية سائدة مثل إبصارها وطبيعة شعرها، لذا احتمالية بقاء جسدها سليما ملا العشرة أعوام التالية كان أمرًا مستبعدا من الأساس، لكن ماذا لو كان ما تحدثت بشأنه خالتي ريحانة حقيقيا؟ ماذا لو وعد الشاهد حقا بعودة الملديين مع الذئاب؟ ماذا إن عادت ناي للحياة مرة أخرى ؟! بعد عام بعد عامين بعد عشرة ؟! حتى لو بعد أعوام أكثر من ذلك ؟! حينذاك اعدت سؤالي إليها:

هل أنت صادقة بشأن ذلك الجزء من النبوءة يا خالتي أم أن موت ناي أثر على عقلك ؟

 

قالت في هدوء:

اذهب إلى حائط الرؤى ستجد النبوءة محفورة عليه وبجوارها حروف منقوشة على مسافات، إنها الحروف الأولى من النصف الباقي من النبوءة «سينهض الملديون وستشع عيونهم بالأصفر من جديد ليقودوا الذئاب أخوة متعاهدين ضد البشر»

س او س ع ب م ج ل ا أم ضا

ظنُّ الناس أن ذلك نوع من السحر، لكنها رموز وضعها جدي كي يثبت رؤيته فيما بعد.

قلت وأنا أفكر في أنني لم أر حائط الرؤى من قبل خاصة أنه نقل إلى «تيبيانا» قبل عقود، ويُقال إنه مُلقى هناك في مكان قذر، وقد تهشم جزء كبير منه:

  • أريد دليلا آخر. “

صرخت في:

إني أخبرك بالحقيقة إن كنت تحبها حقا أحضر لها ذلك القار اللعين

صرخت فيها:

أريد دليلا آخر على أن ناي قد تنهض إن عاد الشاهد للظهور. نطق العم بهلول للمرة الأولى:

انظر إلى لون عينيها، لن تجده أصفر مثلما تعودت أن تراه

نظرت إليه مستغربًا، كانت عينا ناي مغلقتين منذ اللحظة التي سقطت فيها غارقة في دمائها ولم أحاول فتحهما، ودون أن أقول شيئا تحركت نحوها، وبرفق رفعت جفن عينها وحينها انتفض جسدي إذ وجدتها زرقاء كالسماء الصافية.

فأردف:

  • ستعود للونها إن نهضت قبل تحللها، لكن بلا قلب سليم ستكون شبحًا مثلما قالت ريحانة، لن تعود ناي التي تعرفها أبدًا.

واصلت تحديقي في ناي، ومددت يدي وفتحت العين الأخرى كانت زرقاء أيضًا، هنالك أغلقت عينيها في رفق، وقلت لأبويها:

  • لن أغطيها بالقار مثلما تريدان، ولن أدع جسدها يتحلل، إنني أستطيع الحفاظ على سلامة جسدها حتى يظهر الشاهد من جديد أو أموت، أيهما أولا……. يتبع

رواية وادي الذئاب المنسية…..«الحلقة الرابعة عشر»

 

مروة طارق

لم أظن يوما أنني قد أفعل ما فعلته في تلك الليلة، أن أذهب بمفردي إلى مكان قصي مظلم في قرية لم أزرها في حياتي إلا مرتين، وأن أتتبع شخصا كل ما أعرفه عنه هو حسابه الإلكتروني على موقع فيسبوك، وأن أعبرر وراءه سور بيت مهجور في ليلة مطيرة كان طقسها الأغرب على الإطلاق منذ سنوات.

قبل أيام من تلك الليلة تلقيت اتصالا من ،فاروق، زميل دراستي الذي يعرف أناسا في قرية« البهو فريك» يخبرني فيه عن اكتشاف أحدهم إزالة كومة طين قبر الشيخ موسى وإغلاقه بالطوب المرصوص فحسب، وتأكيد أحد سكان البيوت المحيطة بالمقابر له رؤيته لخالد وهو يغادر المقابر بجوال منبعج قبلها بيومين في وقت متأخر من الليل، ورغم أنني فكرت وأنا أنهي المكالمة أن أنسى أمر ذلك الذئب وأركز على باقي رسالتي العلمية فإن غضبا في داخلي من ذلك المدعو «خالد» جعلني أرغب في العودة إلى تلك القربة مرة أخرى لأعرف سبب إصراره على حرماني من ذلك الاكتشاف، لا سيما أننا صرنا نمتلك شاهدا على فتحه قبر الشيخ موسى، بيد أن الأسباب تجمعت تباعًا لتؤخرني أيامًا عن الذهاب إلى تلك القرية، تارة تصاب أمي بفيروس كورونا، وتحجز في المستشفى، وتارة تضع أختي مولودها الأول، وتارات أخرى تفعلها سيارتي وتتعطل كالعادة، إلى أن جاء يوم الفرج أخيرا واستطعت توفير يوم للسفر إلى تلك القرية، ورغم سوء الجو منذ صبيحة ذلك اليوم وتذبذب أداء شبكة الاتصالات الهاتفية وتعطل سيارتي مرتين في الطريق فإنني أصررت على إكمال الطريق إلى هناك، حتى وصلت القرية قرابة التاسعة مساءً لأجد شوارعها خاوية في ذلك التوقيت وكانها صارت قرية من الموتى مع سوء الطقس. حاولت مهاتفة فاروق أكثر من مرة لكني لم أستطع بسبب تلاشي الإرسال مع اشتداد الهواء كنا قد اتفقنا صباحا في آخر مكالمة هاتفية بينا اننا سنلتقي في القرية في تمام الخامسة مساءً ومن بعدها ساءت شبكة الاتصالات تماما، أرسلت له رسالة إلكترونية عبر تطبيق واتس أب أخبره فيها أنني وصلت القرية، لعل بصيصًا من الإرسال يصل الهاتف فيعلم انني أمكث في انتظاره، ثم ركنت سيارتي على جانب طريق قريب من بيت خالد وبقيت في داخلها أنظر إلى هاتفي كل دقيقة آملة أن تُرسل رسالتي، بينما يواصل المطر هطوله في الخارج.

فكرت في النزول إلى خالد ومواجهته بمفردي، لكني كنت أعرف انها ستكون مواجهة بلا قيمة، إذ كان من المفترض أن يأتي فاروق وصديقه بالشاب الذي رآه يتحرك بجوال من منطقة المقابر كي لا ندع له محلا للإنكار، إلا أن كل شيء صار في مهب الريح مع عدم قدرتي على الوصول إلى فاروق، حتى فوجئت بما لم أتوقعه قط، خالد يخرج من بيته حاملا حقيبة على ظهره سوداء، ويتحرك في الشارع أمامي دون أن ينتبه إلى سيارتي، واريت جسدي سريعا خشية أن يلتفت إلى السيارة فجأة، قبل أن أنزل منها واتسلل من بعيد، كان الأمر برمته غريبا، أن يخرج من بيته في ذلك التوقيت رغم سوء الطقس، ثم يتخذ طريقا يمتد من المنطقة السكنية نحو الأراضي الزراعة وينير مصباح رأسه ليضيء الظلام أمامه كأنه أعد العدة لتلك المسيرة المرية.

واصلت ملاحقتي له عن بعد رغم تعثري في حفر المياه الضحلة التي سببتها الأمطار وتلطخ بنطالي وحذائي بالطين عن آخرهما، يساعدني في تعقبه نور المصباح الذي يحمله فوق رأسه وبين حين وآخر كنت أنظر الى شاشة هاتفي لعله التقط إرسالا لكنه لم يحدث.

لا أنكر الخوف الذي اصابني مع ابتعادي كثيرًا عن المنطقة السكنية وتكرار البرق والرعد الكثر من مرة، وتفكيري في الرجوع إلى سيارتي وشرار والعودة إلى الإسكندرية، وسحقا للذئب والحفريات جميعها، لكني عدلت عن ذلك التفكير عندما رأيته يتوقف فجأة في مكان ما ويبدأ حفر الأرض أسفل قدمه بجاروف صغير ليخرج منها جوالا كان الأمر في تلك اللحظة غريباً جداً بالنسبة لي. إن كان ذلك جوال الذئب ما الذي يدفعه ليدفنه في الوحل بعيداً، وما الذي يجبره على استخراجه في تلك الليلة بالذات، فكرت في الإطباق عليه في تلك اللحظة، لكني تريثت موقنة أن الوقت سيكشف لي إجابات اسئلتي.

تحرك بعد ذلك نحو بيت كان يوجد ايضا في المنطقة الزراعية بعيدا عن بيوت القرية، وكلصٍ محترف القى الجوال والحقيبة نحو الجهة الأخرى في من صور ذلك البيت قبل أن يتسلقه، لم يكن لدي حل سوى أن أفعل مثلما فعل وفي سلوك غريب منى تسلقت السور انا الأخرى إلى جانبه الآخر، كان بيتا مظلما بدا غير مأهولٍ بالسكان، أنرت مصباح هاتفي وتقدمت إليه وأنا أرتجف من الخوف الذي يعصف بي ثم دلفت عبر بابه، فخشخش عقد الصدف الموصول بحلقات نحاسية الذي كنت أرتديه حول عنقي مع السكون القاتل في الداخل، فحررت مشبكه سريعا وكومته ووضعته في جيب بنطالي، ثم نزلت على أطراف قدمي سُلَّما يؤدي إلى قبو يصدر منه ضجيج وبعض الهمهمات، وهناك وجدته يضع حقيبته وجواله ومصباحه المضاء جانبا، ويقف لاهثاً بجوار صخرة كبرى بدا أنه كان يحاول تحريكها عن موضعها في ذلك الأوان لأقول له:

  • هل تحتاج إلى مساعدة أيها الكاذب؟

التف إلى مضطربًا، وقال في صدمة كبرى:

أنت ؟! ماذا جاء بك إلى هنا؟!

قلت:

لا بد أن القدر أرسلني لأعرف الجريمة التي تخطط لها.

ورفعت هاتفي لأعلى وقلت بثقة كاذبة وأنا أعرف أنه لا يحمل إرسالا.

والآن لنبلغ الشرطة لتحقق في أمر رجل يذهب ليلا إلى بيت مهجور على أطراف قريته، ويعبر سوره ومعه رفات ذئب قديمة استخديها دون تصريح من أحد قبور القرية.

نظر إلى مترقبا، فضغطت رقمًا على شاشة الهاتف موحية له انني اطلب النجدة، وفي داخلي اخشى ان يهاجمني ويكتشف امر زيف مكالمتي لكنه قال:

  • أرجوك، لستُ لصا ولا مجرما، إنني أحاول إنقاذ ابني فحسب. أدركت أن اللعبة خالت عليه، فأطلقت إيماءة ساخرة مما يقوله، فتابع:
  • لقد أخرجت عظام الذئب من القبر حقا، لكنها أصابت ابني بلعنة جعلته مريضا طوال الشهور الماضية، وعندما أحضرت روحانيا إليه اكد لي انه ممسوس بجن ما، وسبيل شفائه من ذلك المس هو إعادة تلك العظام الى موطنها، لقد كنت محقة عندما فكرت في احتمالية مجي الذئب قديما إلى بلدتنا من عالم آخر….

 

تتمة الحلقة الرابعة عشر !!

 

وصمت ثم أكمل:

نعم هناك عوالم أخرى تعيش أسفل هذه الصخرة، أو بمعنى أدق ما يوجد أسفل هذه الصخرة. ضحكت ساخرة، كنت أظنه محتالا قبل تلك الدقائق، صار محتالا ومنونا وضغطت رقما آخر، فأردف مضطربًا:

_ تظنين أنني أكذب، لكنها الحقيقة، إنه سر لا يعرف عنه الكثيرون

وجود تلك العوالم هو ما جعلني أخفي عليك عثوري على عظام الذئب، رغم أنَّني لن أستفيد شيئًا من وراء ذلك، لقد خشيت أن يكتشف أمر البلاد فيضر أهلها.

مجيء الشرطة واعتقالي لن يفيدك في شيء، أرجوك دعيني ألقي بالعظام إلى السرداب الذي يوجد أسفل هذه الصخرة، ، وأعدك بأن….

وقبل أن يكمل جملته انطفأت شاشة هاتفي وهو يطلق صافرته المشيرة إلى نفاد بطاريته، توقعت أن يهاجمني حينها ويؤذيني، لكنه لم يفعل شيئًا من ذلك، وأكمل حديثه هادثا:

  • وأعدك بأن أترك لك عظام الذئب بعدما يُشفى ابني.

قلت:

  • هل لي أن أراها الآن؟

قال:

لا، لن تمسبها إلا بعدما أتيقن من زوال لعنتها عن ابني، وقتها تستطيعين أن تفعلي بها ما شئت، اتفقنا؟

ضممت شفتي مفكرة، ثم أومأت له موافقة، بعدها تساءلت وأنا أنظر إلى الجزء الظاهر من الباب الحديدي المغلق أسفل الصخرة:

  • هل يوجد شيء خطير أسفل هذا الباب؟

قال:

إنها قصة يطول شرحها، ونحن ملزمون بالساعات المتبقية على زوال البدر، لكن على كل حال هناك نفق صغير سأعبره ثم سرداب سأضع فيه العظام وأعود.

قلت

سنعبره، وسنضع، لن تتركني وحدي هذا.

نظر في عينيَّ مفكرًا، ثم هز رأسه إيجابا وقال:

حسنا

ثم تابع بعد برهة:

  • لتساعديني إذن في تحريك هذه الصخرة.

زحزحنا الصخرة معا لنبعدها تماما عن الباب الحديدي الذي فتحه خالد فأصدر صريرًا صاخبا، بعدئذ وجه ضوء مصباحه إلى داخله فدق قلبي عندما أبصرت سلمًا حديديا يهبط عموديا من ذلك الباب الصغير، فقال:

إنه نفق ضيق، الهواء فيه قليل، عليك أن تتبعيني بلا تلكؤ للخروج منه سريعا إلى السرداب، وإلا سيصيبك الاختناق

ترددت للحظة وأنا أنظر مجددا إلى الأسفل، لكني هززت رأسي في النهاية موافقة، فأعطاني حقيبة ظهره، وقال:

  • دعي هذه معك.

حملتها على ظهري، فهبط قبلي ماسكا جوال العظام، وهبطت من ورائه كما قال تماما كان حيز النفق ضيقا للغاية تملؤه شباك العناكب، وقبل أن تمر دقيقة واحدة شعرت أن صدري يضيق من قلة الهواء، فكرت في العودة مجددا إلى أعلى، لكنه أمسك بمعصم يدي، وتقدم بي سريعا نحو باب خشبي صغير يقع على جانب النفق ما إن عبرناه حتى ارتوت رئتاي بالهواء، لكنه نطق مستاء وهو يلهث:

  • الغيوم!

_تساءلت وأنا أنظر إلى الفراغ المظلم أمامنا:

  • ماذا؟

قال:

  • إن الغيوم الكثيفة تمنع البدر من إضاءة السرداب، إنها المرة الأولى التي أراه بهذا الظلام.

ضحكت ساخرة:

  • وكيف سيصل ضوء البدر إلى الأسفل هنا أيها المتحذلق؟

قال:

  • لن تصدقي إلا إن رأيت الأمر بنفسك.

ثم تحرك بي لنهبط على مهل سلما طويلا كان عدد درجاته وعمقه

غريبين جداً بالنسبة لي. سألته وانا اهبط بحذر:

  • أهذه مقبرة فرعونية ؟

قال:

لا إنه سرداب فوريك الذي بناه «فوريك»، أثرى المماليك الذين عاشوا في قريتنا قبل قرون.

ضممت شفتي مستغربة. كان ما يحدث مذهلا بالنسبة لي خاصة عندما وصلنا إلى قاع السلم، فحرك ضوء مصباحه في الظلام أمامنا لأجد ممرا طويلا ترتفع جدراته على الجانبين إلى عشرة أمتار تقريبا، فتابع ونحن نتقدم في الظلام مسترشدين بمصباحه:

_عند خط معين في هذا العمر سيدفعك السرداب إلى طريق إجباري ينتهي بأرض أخرى يعيش فيها أناس تختلف عيشتهم عن عيشتنا.

قلت مازحة وأنا مذبذبة بين التصديق وعدمه:

ربما علينا خوض المغامرة الآن.

قال:

لا إن تلك المدينة مغلقة في هذا الوقت من العام، إن دفعنا السرداب إلى هناك سنموت جوعا أمام بوابتها الكبرى التي تفتح مرة واحدة في العام، وتلك المرة ستكون في اليوم الثاني عشر الذي يلي بدر الشهر القادم، هذا إن كانت حساباتي دقيقة ولم تغير قواعدها منذ زيارتي الأخيرة لها.

ثم بدأ يحرك ضوء مصباحه على الجدران يمينا ويسارا كي يريني النقوش المرسومة عليها، لأفتح فاهي من الانبهار، قبل أن يتحول ذلك الانهار إلى قلق ورعب عندما تعثرت قدمي بشيء مكور أجوف تدحرج على إثر تعثري به. وحين وجه إليه خالد مصباحه وجدناه جمجمة بشرية، فصرخت، فقال في هدوء:

  • لا تخافي، سيقابلنا الكثير منها. فتقدمت وراءه رغم الفزع الذي أصابني كليا، حتى توقف بنا بعد عشرين دقيقة من السير، وقال وهو يهم بالجلوس:
  • أعتقد أننا قطعنا مسافة كافية داخل السرداب أخشى أن ألا تنزاح الغيوم عن البدر فيضيع كل تعب هذه الليلة هباءً وانتظر شهرا آخر حائرا في مرض ابني.

سألته وأنا أجلس بجواره عما أصاب طفله، فحكى لي ما حدث له منذ الليلة التي اخرج فيها عظام الذئب وما راه من رؤى عبر ملامسة جبينه واختتم حديثه وهو يخرج العظام من الجوال ليضعها بجوارنا:

إنها محاولة إن لم تنجح سأضطر للذهاب إلى بلاد ما وراء هذا السرداب منتصف الشهر القادم

ثم وجدته يخرج من حقيبته كمامة كلب جلدية تتصل بحبل طويل ويثبتها بإحكام على مقدمة جمجمة الذئب التي أدركت من رؤيتي الأولى لها أنها لذئب رهيب، ويقول:

_علينا ان نتوقع اي شيء

مددت يدي منبهرة كي امسك بالجمجمة، فأزاحها بعيدا عن يدي وقال:

كما اتفقنا، بعد شفاء ابني.

فأومأت برأسي إيجابًا، فأسند رأسه إلى الحائط، وتابع:

  • سنبقى حتى طلوع النهار لعل البدر يظهر في لحظة ما.

ثم بدأ يحكي لي ما حدث له في زيارته الأولى والثانية إلى أرض زيكولا وكلما تعجبت من شيء في غير تصديق قال نفس الجملة: عندما ينير البدر السرداب سيبدأ عقلك في تصديق ما أقوله.

أسرعت تلك القصص من مرور الوقت، حتى أن الساعة وصلت الثالثة صباحًا دون أن نشعر، وقتئذ وضع خالد عظام الذئب الجوال ونهضنا لنتحرك أعمق في السرداب، أمسكت أنا بالمصباح تلك المرة وحركته في كل جانب ليتواصل انبهاري الشديد بكل تفصيلة من تفاصيل بنائه. وإن بقي عقلي غير مصدق لجزء كبير مما رواه لى خالد قبل قليل، توقفنا للمرة الثانية قبيل صورة رجل منقوشة على جدار السرداب قال خالد إنها الحد الذي لا يجيب أن نعبره بل أصر على الرجوع امنارًا إلى الخلف، حدقت إلى تفاصيل الصورة من بعيد وهو يقول:

إنها صورة «فوريك». الرجل الذي شيد هذا السرداب، من بعدها تهتز الأرض وتنهار الجدران من خلفك لتدفعك إلى عالم زيكولا،

كان قد حكى لي ذلك الجزء تفصيلا بين حكاياته، فوافقته رغم عدم اقتناعي الكامل، وعدت لأجلس بجواره بينما كان يخرج عظام الذئب إلى أرض السرداب مرة أخرى. ثم سألته:

  • متى يطلع النهار ؟

قال بعدما نظر إلى ساعة هاتفه:

بعد ساعة وأربعين دقيقة.

أخرجت زفيري وقلت:

إن مرت الليلة دون ظهور البدر، سأستعير منك جمجمة الذئب وعظمة فخذ واحدة، وأترك لك باقي النظام، وأعدك بأنني سأعيدها لك قبل بدر الشهر القادم.

وتابعت عندما لم يعطني جوابا:

  • أقسم لك أن يبقى هذا الأمر سرًّا بيننا، سأجري بعض الفحوصات عليها بمفردي بدون أن أريها لأحد، وسأعيدها لك في أسرع وقت، وليلة البدر القادم سأتي لنزول السرداب معك أيضا، لقد أحببه.

قال بصوت هادئ:

  • ربما يصيبك المكروه الذي أصاب ابني.

قلت:

  • طالما لم يصبك شيء أنت وزوجتك فهناك فرصة ألا يصيبني أنا الأخرى.

ثم نظرت إليه بدا أنه وافق مبدئيًا على طلبي، وإن بقي حزنه بعدم ظهور البدر واضحا جدًا عليه، إذ واصل صمته وشروده وهو يسند راسه إلى الجدار فسكت أنا الأخرى، وأخذت أفكر في توابع إثباتي انتماء ذلك الذئب إلى الذئاب الرهيبة لأغمض عينى وأرى نفسي في قاعة كبرى بأعرق جامعات العالم أتحدث عن اكتشافي العظيم، بينما ينظر الحاضرون إلى عارض شاشتي، بانبهار كبير، قبل أن يصفقوا لي تصفيقا شديدا، هز معه أرجاء تلك القاعة. بيد أن ما هزني حقا هو خالد الذي كان يمسك بذراعي، ويصبح لي فرحا:

إن الضوء يتسلل إلى السرداب

فتحت عيني لأجد ما لم أتوقعه قط، إذ بدأت إضاءة السرداب تزداد رويدا رويدا لتتضح معها الرؤية تماما وكأن أحدهم أتى بمصابيح عملاقة وأنارها لتكشف السرداب وتفاصيله بالكامل، دق قلبی ،خوفا كنا على وشك الخروج والآن أضيء السرداب بنور البدر ما كان يعني صدق حكايات خالد التي في رواها لي قبل قليل، نظرت بطرف عيني إلى عظام الذئب المبعثرة على الأرض، وإلى خالد الذي وقف ليمسك في ترقب طرف الحبل المرتخي الواصل بكمامة الجمجمة، وإلى صورة فوريك التي ظهرت بوضوح مع اشتداد الضوء السرداب، وإلى امتداد السرداب بعدها، ثم وقفت بجوار خالد وحدقت إلى العظام في ترقب أنا الأخرى.

خلال الدقائق الأولى لم يحدث أي شيء، نظرت إلى خالد مجددا، كان لا يزال محملقا في العظام دون أن يحرك عينيه عنها، أدركت في تلك اللحظة أنه لن يسمح لي بالمغادرة بالجمجمة أو أي عظمة أخرى تحت أي ظرف، قلت بعد دقائق أخرى وأنا أنظر إلى العظام

  • لم يحدث لها شيء.

قال:

  • ربما علي أن أزيل هذه الكمامة.

ونزل على ركبتيه كي يزيلها، لكنه سحب يده سريعا وعاد مبتعدا وهو يشير بسبابته إلى عظمة لوح الكتف، ويقول:

لقد تحركت هذه العظمة.

فقلت:

إنها ثابتة، لا تدع التهيؤات تنل منك.

لكني ابتلعت لساني من المفاجأة عندما لاحظت أنا الأخرى عظمة الفخذ تتحرك من مكانها في اتجاه معين، كأن سربا من النمل يحركها، فصرخ إلي:

ارأيت؟!

انتقضت دقات قلبي وتسارعت انفاسي في حين بدأت باقي العظام تتحرك لتتقارب من بعضها وتتراص متتابعة في هيئة هيكل عظمي للذئب قبل أن تلتصق ببعضها وكان مغناطيسا ما يتموضع عند نهاية كل عظمة،

فهمست إلى خالد في رعب:

إن هذا الذئب مسكون، علينا أن نغادر.

قال بنبرة لا تخلو من الخوف:

نعم، حان الوقت لنغادر

وهبط بحذر ليلتقط حقيبته، لكنه ما إن أمسكها بيده حتى صرخت رعبًا، إذ نهض هيكل الذئب على قوائمه الأربعة فجأة، قبل أن يلتفت بجمجمته في الاتجاهات : يتفقد المكان من حوله، حتى ثبت محجرى عينيه نحو صورة فوريك وكأنه وجد ضالته فيها، همست إلى خالد وأنا أموت رعبًا:

  • علينا أن نخرج.

لكن الأوان قد فات. إذ اهتزت الأرض أسفل أقدامنا بقوة، ووجدنا جدران السرداب التي عبرناها قبل قليل تبدأ فى انهيارها مندفعا نحونا، ليركض هيكل الذئب، ومن ورائه خالد يمسك بحبل كمامته في يده اليمنى وبحقيبته في يده اليسرى، وأنا من خلفهما بأقصى سرعة لي، يدفعنا الحطام نحو طريق مستقيم طويل لا طريقين متفرعين مثلما ادعى خالد في قصصه.

صرخت إليه وأنا أركض:

  • ألم نقل إن الطريق يتفرع إلى فرعين؟!

 

قال وهو يحاول اللحاق بهيكل الذئب بأقصى سرعته:

  • إنه يقودنا إلى طريق جديد لم أخضه من قبل.

ولم يكد يكمل جعلته حتى ظهرت في الأفق أمامنا دائرة كبرى من الضوء الأبيض الشديد جعلتنا نغمض أعيننا من شدة الضوء والحرارة المتبعتين منها. كنا نتقدم نحوها بينما تواصل الجدران انهيارها خلفنا مباشرة، صرخت إلى خالد مرتعبة:

  • ماذا نفعل ؟

قال وهو يركض نحو تلك الدائرة:

  • اتبعيني.

لأندفع وراءه ووراء هيكل الذئب، وأقفز إلى داخلها……..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى